حفل تذكاري بديل في قلب الإتجاه السائد
ا.د. عساف دافيد
ترجمة من اللغة العبرية: يتسحاق شنيبويم
وقع هذا الأسبوع حدث تاريخي في العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، وكان حدثا صغيرا متواضعا بعيدا عن أضواء الإعلام، ولكنه كان مدويا ومؤثرا إلى حد الدموع، حيث لن ينساه أيٌّ ممن حضره، فقد التقى عسكريون من الطرفين حاربا بعضهما بعضا قبل 45 سنة في مناطق القتال بالقدس تكريما لبعضهما البعض وإجلالا للشهداء.
كانت قوات من المشاة والمدرعات تابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي قد خاضت في السادس من يونيو حزيران 1967 معارك ضارية مع الجيش الأردني في منطقة القدس. وعند طلوع الفجر هاجمت قوات من لواء المظليين الإسرائيلي مواقع أردنية بجوار معبر "ماندلباوم" وحيَّي الشيخ جراح ووادي الجوز. أما جنود كتيبة المظليين 66 فهاجموا الموقع الأردني على "تلة الذخيرة" والذي كانت ترابط فيه سريتان أردنيتان تابعتان لكتيبتي المشاة الثانية والرابعة من لواء الملك طلال، حيث دارت في ذلك المكان معارك طاحنة قتل فيها 36 من الجنود الإسرائيليين و71 من الجنود الأردنيين وجرح الكثيرون. وقد احتل الجيش الإسرائيلي الموقع بعد 4 ساعات رهيبة، ولكن المظليين الإسرائيليين كانوا يشعرون بواجب الإشادة بشجاعة أعدائهم الأردنيين وبطولتهم، فأقاموا على قبرهم نصبا صغيرا مرتجلا، علقوا عليه بندقية أردنية كتبوا عليها بالإنجليزية "جيش إسرائيل، جيش الدفاع الإسرائيلي، دفن هنا 17 جنديا أردنيا شجاعا، 7 حزيران 1967". وقد أصبحت معركة "تلة الذخيرة" معلما من معالم الحروب الإسرائيلية، ألهم المؤلف يورام تاهارليف والملحن يئير روزنبلوم بتأليف أغنية نالت شهرة كبيرة قامت بأدائها الفرقة الترفيهية للمنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي.
وفي ال 18 وال 19 من حزيران 2012 زار البلاد عدد من الضباط الأردنيين الذين قاتلوا في منطقة القدس سنة 1967، من بينهم قائدا السريتين اللتين كانتا تدافعان عن "تلة الذخيرة" ومعبر ماندلباوم (علما بأن قائد السرية الثانية التي دافعت عن "تلة الذخيرة" قد توفى قبل سنوات معدودة). وقد التقيا بعدد من الإسرائيليين الذين قادوا القوات التي حاربتهم، من قادة فصائل وسرايا وكتائب. وقد أنهى جميع الضباط تقريبا، ومن الطرفين، خدمتهم في الجيش برتب الضباط المتوسطة والعالية. وقام "صندوق إيبرت" (FES) بتمويل الزيارة التي نظمها "صندوق التعاون الاقتصادي" (ECF) من الجانب الإسرائيلي، و"مركز عمان للسلام والتنمية" (ACPD) من الجانب الأردني. وتضمنت الزيارة عدا عن لقاء المقاتلين والحفل التذكاري في "تلة الذخيرة" جولة مشتركة في مواقع المعارك في كل من "رامات راحيل" و"تلة الذخيرة" و"التلة الفرنسية" ومعبر ماندلباوم وغيرها.
ورافقتُ المجموعة في أول يومي الزيارة، فكان المشهد عجيبا، إذ كان المقاتلون الذين صدرت لهم الأوامر بقتل بعضهم البعض والذين بعثوا بجنودهم إلى الموت والإبادة جالسين في حلقة، مبتسمين، مازحين، يتحدثون عن ذكرياتهم من المعارك و(في الجانب الأردني)الأسر. وقد روى ضابطان أردنيان أنهما التحقا بالجيش بعد مقتل الوالد في المعارك مع إسرائيل، ففوجئ أحدهما حين علم بأن الإسرائيلي الجالس أمامه قاد من الجو القوة التي هاجمت القرية التي قتل فيها والده سنة 1956. وقال الأردنيون مازحين لنظيرهم إنهم يستطيعون الآن البحث عن والد الإسرائيلي لقتله ثأرا، أو لإجراء عطوة عشائرية. وقد قيل الكلام بالعربية فترجمتُهُ للإسرائيليين، وأنا أفكر في حوار يبدو وكأنه من نسج الخيال. ثم روى نفس الضابط الأردني أنه حين أسرته القوات الإسرائيلية حاول الاحتيال بقوله إنه "مدرّس ثقافة". وقد أمضى شهرا تحت الاعتقال قبل أن يعرض عليه آسروه ألبوما لحفل تخريج دفعة في الكلية الحربية الملكية، تظهر فيه صورته بكل إباء بين صور زملائه الخريجين. وأضاف أن آسريه أخبروه بأنه "أعند ضابط" صادفهم، فأثار ذلك موجة من الضحك بين الإسرائيليين والأردنيين.
وقد تحولت أجواء المزاح إلى جو من الجدية والثقل في "تلة الذخيرة"، إذ كان الموقع الذي شهد مثل هذه المعركة الضارية وكلف العديد من الضحايا يحتضن الآن المقاتلين الأردنيين الذين دافعوا عنه مستعدين للتضحية بحياتهم، والمقاتلين الإسرائيليين الذين هاجموهم. وكان الحفل التذكاري الذي أقيم في الموقع فريدا من نوعه وصاعقا بقوته. وروى الشاعر الوطني الشهير حاييم غوري الذي كان قائدا لسرية في سنة 1967، أنه وصل وجنوده إلى الموقع بعد انتهاء المعركة لدفن جثث الجنود الأردنيين بما يليق بها من شرف. وتلا قصيدته "ها هي أجسادنا جاثمة" التي تقشعر لها الأبدان، معبرًا عن أمله في "تلاشي صُرَاخُ آخرِ طَلَقَةٍ فوقَ الجبال", كما جاء في القصيدة. وبين غوري أنه ألف القصيدة تخليدا لواقعة أخرى في حقبة أخرى (قافلة ال 35 جنديا إسرائيليا التي كانت تقصد "غوش عتسيون" فذبح أفرادها عن آخرهم)، إلا أنها تناسب تلة الذخيرة أيضا. وبعد فراغه من التلاوة اعتليت أنا المنصة لأتلو على الحضور ترجمة القصيدة إلى العربية والتي كنت عملت عليها جاهدا لساعات (أنظر أسفل الصفحة).
وتلوت الكلمات العربية "ها هي أجسادنا جاثمة"، وأنا أصارع المرة تلو الأخرى الدموع التي كانت تترقرق في عيني، تماما مثلما فعلت عند تلاوة القصيدة بالعبرية، فتحول ثقل فقدان الحياة الشابة فجأة من إسرائيلي إلى أردني، فأصبح عدو الماضي صديقا بالنسبة لي وأظن أنه كان أيضا شعور العديد من الإسرائيليين والأردنيين الحاضرين. وقد تعزز هذا الشعور، حين قام كل من قائد السرية الأردني الذي قاتل مع رجاله على التلة ومساعد قائد الكتيبة الإسرائيلية الذي هاجمه بتلاوة أسماء الشهداء من كلا الجانبين مودعين إياهم الوداع الأخير. ومن المرجح أن يكون جميع الإسرائيليين والأردنيين الذين حضروا الحفل، وبدون استثناء، قد شاركوا لأول مرة في حفل لتلاوة أسماء شهداء الطرف الآخر من قبل الطرف الآخر وبلغته، اسما وراء اسم، مع التشديد على كل مقطع. وللحظة عاد إلى التلة أفراد الفصائل الصامتة الإسرائيلية والأردنية ينظرون بصمت بعضهم إلى بعض، للمرة الأخيرة، من خلال عيون أبناء عائلاتهم ورفاق سلاحهم.
وأهدى الإسرائيليون الأردنيين صورة مكبرة للشاهد المرتجل الذي صنعوه في 7 حزيران 1967، ما أحدث انفعالا شديدا في الجمهور. وفي ختام الحفل تجمهر المظليون الإسرائيليون حول المشاة الأردنيين، يسحبونني من كمي من هنا وهناك لأترجم كلامهم. "قل له إننا إذا كنا أسودا، فقد كانوا هم فهودا"، "قل له أنني لم أحضر يوما حفلا تذكاريا مؤثرا إلى هذا الحد"، "اسأله كيف قاتلوا ومن اين دخلوا وكم دبابة كانت عندهم وأين كانت المواقع وكيف دافعوا؟" "احك له أن فلان الفلاني قال إنه لم يكن صادف يوما هذا العدد الكبير من الأردنيين الذين قُتلوا مدافعين عن مكان واحد". وفجأة رأيت مظليا إسرائيليا وقائد السرية الأردني يهزان رأسيهما غير مصدقين أنهما تصارعا في نفس الخندق الذي هما واقفان فوقه الآن تماما. وقد زاد انفعال القائد الأردني فقال لي ملحا: "قل لهم إن وحدهم الذين قاتلوا بعضهم البعض يدركون معنى السلام ويستطيعون تقديره".
وكنا نتجول على التلة، نقفز بين خندق ومدفع أردني عيار 106 ملم، وكان الأردنيون ينظرون إليه ويلمسونه بأيديهم يتذكرون الألوان التمويهية التي كانت تغطيه. ويطلب الإسرائيليون معرفة التفاصيل الفنية للمعارك وتجاربها، فيرد القائد الأردني باقتضاب ولكن بطول أناة: "قل لهم إنهم وإيانا نعرف بالتحديد ماذا حصل هنا. يوجد هنا مقاتلون وعائلات ثكلى ويجب احترام مشاعرهم، لنترك الماضي، فقد حل السلام الآن". وأنقل كلامه للإسرائيليين، فيرد علي أحد المظليين بصوت خافت: "إنه على حق. قل له إننا نقدر حساسيته، واشكره نيابة عنا".
ويهبط المساء على الجبل وننصرف جميعا، وترافقني فكرة واحدة ضمن مزيج المشاعر التي تغمرني: في العادة يوجد فلسطيني في نهاية كل جملة يتبادلها إسرائيلي وأردني. أما لقاء المقاتلين هذا، فقد غاب عنه الإسفين الفلسطيني، حيث لم تكن هناك اتهامات من الجانب الأردني أو كلام دفاعي أو هجومي من الجانب الإسرائيلي، إذ اقتصر اللقاء على مقاتلين إسرائيليين وأردنيين حاولوا فيما مضى قتل بعضهم بعضا، واليوم يتذكرون معا بتأثر. وطلب مني أحد المظليين: "قل له إنه لو كان كل من الحضور من جانبنا هم 'الإسرائيليين' وكل الحضور من جانبهم هم 'العرب'، لكان السلام قد حل من زمان"، فرويتها للقائد الأردني، وفكرت، ونحن في طريقنا لمغادرة التلة: "قد يكون معه حق".
*****
قصيدة "فصيل التلّة" للشاعر حاييم غوري (ترجمة: ا.د. عساف دافيد)
أُنظُر، ها هِيَّ أَجْسَادُنا جَاثِمَة والصَّفُّ طويل, طويل
تغيّرت وجوهُنا والموتُ يُحَدِّقُ بعيونِنَا ولا نتنفّس
ينطفئُ الوَمَضُ الأخيرُ ويهبُطُ المساءُ على الجبال
أُنظُر، لن نقومَ لِنَتَنَزَّهَ تحتَ ضوءِ غروبٍ بعيد
لن نعشَقَ، لن نضرُبَ أَوتارًا بنغمةٍ ناعمةٍ وساكنة
لن نهدَرَ في الحدائقِ حِينَ تهُبُّ الرياحُ في الغابات
أُنظُر، أُمَّهَاتُنَا يَنْحَنِينَ صَامِتَاتِ، وزملاؤُنا يحبسونَ بُكَاءَهُم
والقنابلُ تنفجرُ في مكانٍ قريبٍ, وحريقٌ, ونُذُرُ شؤمِ تُبَشِّرُ بالعاصفة
هل حَقَّا تَدْفُنُونَنَا الآن؟
فَنَحْنُ ناهضون مُنْطَلِقون ثانيةً والى الحياةِ عائدون
نتمايلُ عمالِقَةٌ عِظَامٌ, نُسَارِعُ مُنجِدين
لأنَّ كلَّ ما فينا حيٌّ لا يزالُ يَنْبَضُ في عروقِنا لاهبًا
لم نَخُنْ. أُنظُر، سلاحُنا لاصقٌ بنا وجَعْبَتُنَا فارِغة
يتذكَّرُ كَلَامَنَا كُلَّهُ ولا تزالُ فُوَّهَتُهُ متَوَهِّجَة
ودِماؤُنا مُتَنَاثِرَةٌ على الشّعابِ شِبْرًا وراءَ شِبْر
بَذَلْنَا كلَّ ما بوَسْعِنا حتّى سقط الأخيرُ مِنَّا ولم يقُمْ
هل حَقًّا نُلَامُ إذا كانَ الظَّلامُ حَلًّ بِنَا أَمْوَاتًا
وشِفَاهُنَا تُقَبِّلُ الأرضَ الوَعْرَة؟
أُنظُر, ما أكبرَ الليلَ وما أَرْحَبَهُ
أُنظُر كَيْفَ تَزهَرُ النّجومُ في الظّلام
وأريجُ الصَّنَوْبَر
سوف تَدْفُنُونَنَا الآن لِيَكْسو الثرى وجوهَنا
هنا تَبْرَزُ الأسلاكُ، والخنادِقُ، ونحن هنا سَوِيَّةً
أيُّهَا الفجرُ الجديدُ، لا تنسى! لا تنسى!
لقد نطقنا بِاسْمِكَ حتّى غمَّضَ الموتُ عيونَنَا
أُنظُر، ها هِيَّ أَجْسَادُنا جَاثِمَة والصَّفُّ طويل ولا نتنفّس
ولكنَّ الرياحَ قويةٌ وتَتَنَفَّسُ في الجبال
لقد بَزَغَ الفجرُ ويَتَلألأُ النَّدَى كالتَّغْرِيد
سوف نَلْتَقِي مرةً أُخرى, سوف نعودُ كالزّهورِ الحمراء
وسوف تَتَعَّرَفُونَ عَلَيْنَا فَوْرًا. إنَّهُ "فصيلُ التَّلَّةِ" الصَّامت
وعِنْدَهَا نَزْهَرُ, عِنْدَ تلاشي صُرَاخُ آخرِ طَلَقَةٍ فوقَ الجبال
د. عساف دافيد هو أستاذ غير متفرغ في قسم العلوم السياسية, كلية العلوم الاجتماعية, الجامعة العبرية في القدس, ومتخصص في شوؤن الأردن والعلاقات المدنية-العسكرية في الشرق الاوسط ([email protected])