الانتخابات في الأنظمة الديمقراطية أشبه بانفجارات بركانية تعكس وتبلور، في الوقت ذاته، تيارات وتحولات سياسية ـ حزبية. الجولات الانتخابية الثلاث الأخيرة، التي جرت في العامين 2019 و2020، وخاصة منها الجولتان الأخيرتان، جسّدت وبلورت، من بين أشياء أخرى، تنامي “الخيار العربي” في نظر قطاع من الخارطة السياسة اليهودية الصهيونية: محاولة شرعنة الكتلة العربية الممنوعة وتحويلها إلى كتلة مانعة في إطار ائتلاف غير حكومي، أو كتلة وازنة ومؤثرة في السياسة البرلمانية الإسرائيلية، على الأقل.
لم يتجسد هذا الخيار واقعًا، كما هو معروف. وعلى القوس الذي يتشكل طرفاه النقيضان من الكتلة المانعة والكتلة الممنوعة، بقيت السياسة العربية ـ كما يبدو ـ أقرب إلى الأخيرة من بينهما. ومع ذلك، تحدث تحت السطح تغيرات كبيرة وجوهرية لا يمكن التعبير عنها في اللحظة الزمنية الراهنة.
يقود التمعن في الواقع السياسي ـ الحزبي الراهن وتحليله إلى الاعتقاد بأنّ ظهور “الخيار العربي” يعكس سيرورات في العمق بدأت، أو تسارعت، بفعل تغيرات داخلية وخارجية ـ سياسية، حزبية، قضائية واجتماعية ـ تمسّ مسألة المواطَنة الإسرائيلية. أبرز هذه السيرورات وأهمها: بروز وتكريس السياسة ذات الكتلتين/ الجناحين في إسرائيل، تعمق وعي المشارَكة في السياسة العربية، وسن قانون أساس: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي (فيما يلي: قانون القومية).
يتسم عهد نتنياهو بتبلور السياسة ذات الكتلتين، كتلة اليمين وكتلة أخرى إلى يسارها تشمل الأحزاب العربية. اضطرت الأحزاب اليهودية من الكتلة المُقابِلة لليمين إلى إدراج الخيار العربي على أجندتها لغرض التغلب على كتلة اليمين. في موازاة ذلك، اتسع الإقرار لدى أجزاء من الكتلة المقابِلة بأن الشراكة مع الأحزاب العربية هي ردة فعل مناسبة ومطلوبة على التفوق اليهودي الذي كرّسه قانون القومية. يمكن الافتراض بأن هذا الإقرار ينبع من الفهم المتزايد في أوساط أولئك اللاعبين بأن الصيغة الدستورية المتمثلة في “يهودية وديمقراطية”، المُعتمَدة لديها، لا تمنع من حيث المبدأ، ليس بصورة تامة بالتأكيد، إقامة شراكة ثنائية القومية في مراكز القوة السلطوية.
إلى جانب ذلك، أدى رفع نسبة الحسم إلى تأسيس القائمة المشتركة التي عزّزت، بدورها، فكرة الشراكة السياسية بين المواطنين العرب. هذه السيرورة تجعل من الصعب العودة إلى السياسة التي سبقت رفع نسبة الحسم، وهو ما يعكسه تدني نسبة المشاركة في التصويت بين المواطنين العرب (49,5%) في انتخابات نيسان 2019، التي تفككت فيها القائمة المشتركة وانقسمت إلى قائمتين منفصلتين. وقد ساهمت الطبقة الوسطى العربية، التي تشهد اتساعًا، في انتشار وتعاظم فكرة الشراكة. كما أن التحريض المنفلت وغير المسبوق الذي شنته كتلة اليمين بقيادة نتنياهو ضد السياسة العربية والمواطنين العرب قد عزز الشعور بالقوة وبالمسؤولية لدى الأحزاب العربية؛ وهو ما تجسد في الرغبة في التأثير على السياسة الإسرائيلية، لا سيما من خلال الشعار السياسي القائل “وحدنا لا نستطيع، وبدوننا غير ممكن”، الذي يُنسب في الغالب إلى رئيس القائمة المشتركة، أيمن عودة.
كان بروز الخيار العربي متأثرًا بسيرورات خارجية، أيضًا. فقد كشفت تقلبات “الربيع العربي” أمام المواطن العربي في إسرائيل مدى الوهن والهشاشة السياسية، المؤسساتية والاجتماعية، التي تمسك بتلابيب الجماعات القومية المختلفة في الفضاء العربي، وحفّزت عملية انزياح من القطب الراديكالي في السياسة العربية في إسرائيل نحو القطب الإصلاحي الذي يشدد على فكرة تغيير التعريفات، من الداخل. ورغم أن مصدر هذا التأثير ليس معروفاً وواضحاً في السجال العربي العام بالضرورة، ولا في السجال العلني الدائر لدى النخبة السياسية الفلسطينية ـ الإسرائيلية بالتأكيد، إلا أنه من غير الممكن تجاهل أهميته أو التقليل منها.
من المثير أن نلاحظ أن اليسار اليهودي أيضاً قد نظر “إلى الخارج” خلال السنوات الأخيرة وتبدو لديه، بصورة واضحة، سيرورات داخلية وهوياتية ترتبت على التحولات التي حصلت في العالم وفي إسرائيل، على حد سواء. وقد فتح السجال الدائر حول تاريخ معسكر اليسار في إسرائيل، في سياقاته الطبقية، العِرقية والقومية، والذي تأثر أيضاً بالسجال الدائر في العالم عموماً، أفقًا جديدًا لإعادة التفكير في الحلفاء وتحدي حدود المعسكرات. كما أن حقيقة كون اليسار الصهيوني الرسمي هو في أدنى مستوياته على الإطلاق، من الناحيتين الانتخابية والمؤسساتية، مما يعزز الظروف التي تسمح بالانفتاح على اتجاهات وأفكار جديدة.
انطلاقًا من فهم السيرورات المشار إليها أعلاه، التأمت في العام 2020 مجموعة التفكير “قومية، شراكة” في مجال “إسرائيل في الشرق الأوسط” في معهد فان لير، بالتعاون مع – “الشراكة” ومدرسة السلام في نفيه شالوم/ واحة السلام. الغرض من هذه المجموعة هو تطوير صيغة للشراكة بين القوميتين اللتين تعيشان في إسرائيل وتتقاسمان الوقت، الحيز، المواطَنة والتجارب اليومية المشتركة. نحن نقصد بكلمة “صيغة” هنا: اللغة، المخيال، الإطار التأويلي، الفلسفة الأخلاقية، وبشكل عام المناهج الفكرية من عوالم مختلفة الأفكار والدلالات، إلى جانب الصِّلات، الاستخدامات والآثار السياسية المحتملة. نحن نسعى إلى صياغة الأدوات والمضامين اللازمة للتحليل، للتفسير ولإعادة تفسير الماضي، الحاضر والمستقبل. تنطلق مجموعة التفكير، بشكل أساسي، من قيم العدل، المساواة، الازدهار، الرفاه، الأمن وتحقيق الذات وتعمل على تطوير أفكارها على خمسة محاور أو أبعاد: البُعد التاريخي، البُعد البنيوي، البُعد السرديّ، بُعد العلاقات ما بين الجماعات وبُعد العلاقات في داخل المجموعات نفسها.
يتمحور البُعد التاريخي حول مسألة الظروف التاريخية للقاء بين كلتا المجموعتين القوميتين، وخاصة الحدث التاريخي المتمثل في حرب 1948 التي تمخضت عن خسارة الطرف الفلسطيني وتخللتها سلسلة من المظالم شملت السلب والنهب، الطرد والترحيل، الإذلال، الحرمان من الاستقلال السياسي وخلق مشكلة اللجوء. في هذا السياق، نحن نتحدث عن الولادة المجحفة (wrongful birth) ليس كإطار تحليلي فقط، وإنما مع فحص السياقات الأخلاقية، السياسية والقضائية ما بين الولادة والإجحاف أو ما بين الإجحاف والولادة، لغرض الإصلاح العادل. أما البُعد البنيوي فيتعلق بمسألة الترتيبات القضائية ـ الدستورية التي تضمن حالة متفق عليها من الضبط القومي، الاجتماعي، الثقافي والسياسي بين كلتا المجموعتين. بكلمات أخرى، نحن نسعى إلى وضع تصميم جديد لملامح وجه المولود.
في المقابل، يُعنى البُعد السرديّ، بصورة أساسية، بتطوير أعراف مؤسِّسة، قومية وثنائية القومية، تسبق البعد البنيوي وتستطيع تأسيسه، تبريره والمساعدة في حفظه.
توضع هذه الأبعاد الثلاثة على محور الثنائية القومية الذي يفترض، من الناحية الوجودية، السياسية، المعيارية والأخلاقية، وجود قوميتين اثنتين من حق كل منهما المحافظة على هويتها. ومن هنا، فإن البحث لا يجري حول إزالة الحدود الرمزية ما بين القوميتين، وإنما حول ارتفاعها وسُمكها وحول دلالتها بصورة أساسية. يعبّر البُعد الداخلي في المجموعة، في المحصلة، عن الاعتراف بالاختلاف والتنوع في داخل المجموعة القومية وخاصة لتجنب الأحادية، الهوياتية وتجريد الواقع الجمعيّ الثقافي. وهو يروم، أيضاً، فحص منظومة العلاقات ما بين المجموعات الفرعية في داخل كل طرف قومي، العلاقات ما بين المجموعات الفرعية من كل طرف قومي والعلاقات ما بين المجموعات الفرعية من كل طرف مع المجموعة القومية الأخرى.
هذا العدد هو بمثابة دفعة أولى من النصوص، بمثابة ملاحظات أولية للبحث والعمل، يقدمها أعضاء المجموعة. لم نستطع، بطبيعة الحال، التطرق إلى جميع هذه الأبعاد أو التوسع بشأنها، نظراً لأننا ما زلنا في بدايات النشاط. ومع ذلك، تعرض مجموعة المقالات القصيرة هنا توجهات فكرية مثيرة للاهتمام تمهيداً لمواصلة نشاط المجموعة. فيما يلي ملخّصات لها:
يبحث ميخائيل منكين في الدلالات السلبية لإحدى النقاط التوافقية المركزية في التصور القومي اليهودي الصهيوني: الحاجة إلى أغلبية يهودية، بدواعٍ أمنية. وكما هو سائد في الخطاب الإسرائيلي العام، فإن الحاجة إلى ضمان الأمن الفيزيّ ـ الوجوديّ يبررها التاريخ البائس من الملاحقات التي عانى منها اليهود. وبدرجة ليست أقل، يبررها أيضًا الموقف حيال العرب، بمن فيهم الفلسطينيون مواطنو إسرائيل، بوصفهم عدوًا دائمًا محتمَلًا. وعليه، فإن مطلب ضمان الأغلبية اليهودية لأسباب أمنية يستبطن في ثناياه فرضيات ماهويّة بشأن طابع العلاقات بين المجموعتين القوميتين. من هنا، ثمة تناقض بين المضمون السلبي الخاص بالحاجة إلى أغلبية وبين الرغبة المصرَّح بها لدى شرائح من الجمهور اليهودي في تحقيق السلام بين القوميتين.
يقترح أمير فاخوري نظرة تتمحور حول مبنى الواقع الذي تفرضه البنية الدستورية المتمثلة في “يهودية ودمقراطية”، بدلاً من التمحور حول واقع المبنى. ذلك أن واقع المبنى يُستخلَص من الشرح الذي يضعه الخبير المختص والمؤهل للنص الدستوري، بينما يتشكل مبنى الواقع من شرح غير الخبير للنص الدستوري الذي يبني، في منظومة سببية معقدة ومتشعبة من السيرورات الاجتماعية ـ السياسية، دلالة في قلب النص. بحسب فاخوري، من شأن تحويل بؤرة النظر من واقع المبنى إلى مبنى الواقع أن يجعل من السؤال عمّا إذا كانت يهودية الدولة تشكل عائقًا فعليًا أمام المساواة المدنية ـ المادية سؤالًا اجتماعيًا ـ سياسيًا، تجريبيًا وظاهراتيًا، يتقصى الممارسة الإسرائيلية على امتداد سبعين عاماً، تطفو وتظهر من ملايين الاختيارات المتاحة أمام مواطنين يهود إسرائيليين (ومواطنين عرب، أيضًأ، وإنْ بصورة ثانوية) يتصرفون في داخل البنية ذاتها وتحت تأثيراتها، على المدى البعيد. وهذا، خلافًا للسؤال الذي يُصاغ، بصورة حصرية أو سائدة، كسؤال قانوني، نظري أو إيديولوجيّ.
يعتقد غبرئيل ابن تسور بأنّ دولة إسرائيل، في بنيتها الدستورية الحالية وفي الخطاب السياسي الذي تعتمده وتشجعه، تعيد تصميم الهوية اليهودية على نحو يُفرغها من مركّبات كانت جوهرية، فيها ولها، على مدى أجيال عديدة. هذا الواقع يشكل تهديدًا ليس على مواطني الدولة غير اليهود فقط، وإنما على مواطنيها اليهود أيضًا، في كل ما يتعلق باستمرار وجود الهوية اليهودية التقليدية. هنا، كما يقول ابن تسور، يجري الحديث عن يهودية من غير مضمون، هي مسبِّب نفسها: الوسيلة والغاية، في آن معاً. وعلى ذلك، فإن الاستخدام السياسي لمصطلح “يهودي” في إسرائيل يجري بصورة دائرية على الدوام: بما أن الدولة هي دولة يهودية، ينبغي عليها إذن تعزيز الهوية اليهودية، ثم تعزز هذه الهوية، بدورها، تعريف الدولة كدولة يهودية. من هنا، ليست الـ “يهودية” في القانون الإسرائيلي القائم هي المبرر لاستخدام القوة بصورة شرعية من جانب الدولة، وإنما هي القوة في حد ذاتها. إنه عالم لا تزال اليهودية تشكل صلبه ومركزه، غير أن وظيفتها قد انقلبت رأسًا على عقب؛ من منظومة قوانين إلهية طرحت بديلًا للنظام السياسي القائم، إلى قومية ضيقة تعزز بنية الدولة القانونية التي تشكل، فعليًا، مبنى قوة دينية معلمَنة تماماً.
في الجزء الثاني من مقالته، يعتبر ابن تسور إن الدفع نحو شراكة يهودية ـ عربية قد يلعب دوراً هاماً في تحييد مبنى القوة الإسرائيلي، لما فيه صالح كلتا المجموعتين. نماذج الشراكة اليهودية العربية المقترَحة اليوم ترتكز، في الغالب، على فكرة ليبرالية تطالب كلتا المجموعتين اللتين تحاربان من أجل استقلالهما القومي بـإبداء قدر كافٍ من “البلوغ” والانصهار في إطار مواطنيّ. ويعتقد ابن تسور بأن هذه النماذج إشكالية، لأن الهدف في الظروف السياسية والاجتماعية الراهنة في إسرائيل ليس، ولا يمكن أن يكون، هوية مواطنية جديدة، وإنما تحرير المجموعتين من التصنيف والاختزال الهوياتي، اللذين فُرضا عليهما. ينبغي للشراكة اليهودية ـ العربية، إذن، أن تتيح الاستمرارية والتواصل بين ماضي كل واحدة من المجموعتين ومستقبلها، لمنح الحاضر دلالته.
يشخّص هليل بن ساسون نموذجًا سائدًا في العلاقات بين اليهود والعرب تحت المواطَنة الإسرائيلية تجري، بموجبه، لعبة المجموع الصِّفري ما بين الصهيونية والهوية الوطنية الفلسطينية (أنظروا، أيضًا، مقال حداد ـ حاج يحيى ضمن هذه المجموعة من المقالات). وفق هذا النموذج، الجانب العربي الفلسطيني مُطالَبٌ بالتخلي عن سردية النكبة والقبول بالهيمنة اليهودية، بينما الجانب اليهودي الصهيوني مُطالَب بالتخلي عن المركَّب اليهودي في هوية الدولة الدستورية والموافقة على الانتقال إلى ديمقراطية توافقية ثنائية القومية.
انطلاقًا من فرضية أن الوساطة السرديّة ـ القومية بين المجموعتين محكومة بالفشل مسبقًا، ولغرض تعزيز الشراكة والمساواة المدنية، يقترح بن ساسون نموذجًا بديلًا يركّز على ما يسميه “عطاء من درجة ثانية”، خلافًا لـ “التنازل القاعديّ” الذي يتضمنه النموذج المذكور أعلاه. وفقًا للمطالب المتوازية في النموذج البديل المقتَرَح، ينبغي على الأغلبية اليهودية التخلي عن حصرية حيازتها القوة السلطوية لإفساح المجال أمام توزيع متساوٍ للموارد السياسية المادية، على أساس قومي. غير أن هذا التخلي لا يشمل التنازل عن مبدأ الأغلبية اليهودية (أنظروا مقالة ميخائيل منكين ضمن هذه المجموعة من المقالات) وعن تمظهراتها العملية التي لا تبلغ حد التمييز المرفوض. في المقابل، مطلوب من الجانب العربي تعزيز تمثيله السياسي في نطاق السياسة الإسرائيلية على حساب شعوره الضحوي المؤسِّس. هذا النموذج الفكري البديل، يختم الكاتب، قد يشكل فكرة سياسية منظِّمة.
تنقد نسرين حداد حاج يحيى صفقة التبادل غير المكتوبة التي تروج لها الحكومة حيال المواطنين العرب والقاضية برصد الدولة موارد لتحسين حقوق الفرد، التنمية الاقتصادية والمساواة المدنية بين العرب، مقابل خلع المواطنين العرب الهوية الفلسطينية عن أنفسهم وتبنيهم الهوية الإسرائيلية بدلاً عنها. وترى حداد – حاج يحيى إنه ليس في وسع التطوير الاقتصادي، أو الرفاهية الاقتصادية، استبدال التكامل السرديّ أو الاحتواء الدولتيّ للسردية الوطنية العربية الفلسطينية. هذه الصفقة الاقتصادية، تضيف حاج يحيى، تشكل صلب الخطة الحكومية 922 والقانون المعروف باسم “قانون القومية” وكذلك “صفقة القرن” التي عرضتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. غير أنّ غياب التكامل السرديّ يسبب اغترابًا لا يتيح الرفاهية الاقتصادية أو من غير الممكن التعويض عنه بواسطة تلك الرفاهية ذاتها.
انطلاقًا من تحليل تشكيلة الفرص والمحدّدات المتاحة أمام المواطنين العرب والدافعة نحو المساواة والشراكة بين أبناء القوميتين ضمن المواطَنة الإسرائيلية، يقترح سامر سويد متوازية مَطالب أو تنازلات في الجانب السرديّ أساسًا، لكن العمليّ ـ الماديّ أيضًا، سيّما وأن هذه المتوازية تخدم مصلحة كلا الطرفين. طبقًا لهذا الاقتراح، يعترف الجانب اليهودي صاحب السيادة بالنكبة ويأخذ على عاتقه المسؤولية عن إصلاحها، بينما يعترف الجانب العربي الفلسطيني، أو يقرّ اعترافه ثانية، بحق اليهود في تقرير مصيرهم. قد يشكل تحقيق هذه المتوازية، برأي سويد، “نقطة تفرّع يتقدم منها التطور التاريخي نحو مسار جديد”، كما حصل في عهد حكومة رابين الثانية بين السنوات 1992 و1995 أو، بالمعنى السلبي، كما حصل لدى رفض غانتس اليد التي مَدّتها إليه السياسة العربية البرلمانية في انتخابات الكنيست الثالثة والعشرين. بالإمكان تحقيق متوازية المطالب هذه بواسطة تعزيز خطاب محدد مثلما جرى تعزيز خطاب التأثير بصورة مكثفة خلال المعارك الانتخابية الثلاث في العامين 2019 و2020، الأمر الذي أنشأ واقعًا أفضل لعَقد الشراكة.
تتمحور مقالة ميراف جونس وليهي بن شطريت حول خطاب السيادة الشائع في إسرائيل اليوم. أي، حول الدلالات السياسية لمصطلح السيادة في الخطاب اليهودي العام في إسرائيل. تقول الكاتبتان إن اليمين الإسرائيلي قد نجح في منح مصطلح السيادة مضمونًا جديدًا، إذ بدلًا من فهم المصطلح بأنه السؤدد الذي يقوم على التحالف والاتفاق المتبادل، يُفهم بين الجمهور الإسرائيلي غالباً بأنه السطوة المتخيَّلة المطبَّقة بصورة فوقية بالإخضاع أو ببسط السيطرة على شعب آخر أو أرض أجنبية. وتبين الكاتبتان كيف أن حركات مصمِّمة آراء سياسية قد عززت عملية تغيير المعنى المذكور.
تركّز رلى هردل حديثها على خطاب التأثير الذي رفعته القائمة المشتركة خلال جولتيّ الانتخابات للكنيست الـ 22 والكنيست الـ 23. وقد تجسد هذا الخطاب في مستويين: الأول، هو الخط الإعلامي القائل بأنه تنبغي زيادة عدد أعضاء الكنيست الذين يمثلون السياسة في المجتمع العربي من أجل التحوّل إلى قوة أكثر تأثيرًا في السياسة الإسرائيلية، وخاصة من أجل تحقيق هزيمة اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو. الثاني، تغليب الهوية المدنية الإسرائيلية والحقوق المدنية بمفهومها الضيق، أي المطلبي والخدماتي وتوزيع الميزانيات، على حساب الهوية الوطنية، الفردية والجماعية. وتذهب هردل إلى القول إنه مع الإخفاق في منع نتنياهو من العودة إلى سدة الحكم، فقد ثبت أن “خطاب التأثير” ليس أكثر من وهم مخادع.
يرى توم مهاجر أن بناء معسكر بديل لـ “ائتلاف الطوارئ” الذي أقامه بنيامين نتنياهو وبيني غانتس يتطلب إجراء إصلاح تاريخي، سواء تجاه الشعب الفلسطيني أو تجاه الجمهور اليهودي المشرقي. ولهذا، ثمة حاجة إلى فهم حقيقة أن عملية إنهاء الاستعمار في مناطق 1948 هو مركّب حاسم، وربما شرط ضروري حتى، لإنهاء الاحتلال في مناطق 1967. وبينما ينبغي في السياق الفلسطيني الحكم على ممارسات النهب والتطهير العرقي في مجالات مثل الهجرة والاستيطان، ينبغي في السياق المشرقي البحث في أشكال مختلفة من الإقصاء، الإخضاع والجرائم العنصرية. وتدل العقود الأخيرة، كما يرى مهاجر، على أن محاولات تحقيق المصالحة والسلام من خلال تطبيع (بل تعظيم) طريقة الحكم في إسرائيل والتاريخ الصهيوني كانت محكومة بالفشل، مما أدى إلى تعزيز قوة اليمين الإسرائيلي.
يعتبر محمد خلايلة إن الخطاب السياسي السائد في السياسة العربية قد تغير من خطاب راديكالي، بقيادة الحركة الإسلامية ـ الجناح الشمالي، أوساط في “التجمع الوطني الديمقراطي” وما تبقى من حركة “أبناء البلد”، إلى خطاب اندماجيّ، اجتماعي ومدني. وفقًا لهذه الرؤية، تعاظم الخطاب الراديكالي في أعقاب أحداث أكتوبر 2000 وبلغ ذروته مع إصدار وثائق التصور المستقبلي خلال العامين 2006 ـ 2007. وإضافة إلى ذلك، تجسد هذا الخطاب في معدلات التصويت المتدنية حيال الإيمان المتراجِع في مدى فاعلية التمثيل السياسي البرلماني وجدواه، تعاظم قوة المجتمع المدني، التشديد على أهمية بناء المؤسسات التمثيلية خارج البرلمان وانعدام التمييز بين الأطياف المختلفة في خارطة السياسة اليهودية الصهيونية.
في المقابل، تصاعد خطاب الاندماج نتيجة أحداث “الربيع العربي” في المنطقة وبلغ ذروته في العام 2019، في عهد القائمة المشتركة برئاسة عضو الكنيست أيمن عودة. وبالنظر إلى استطلاعات الرأي العام، يقول خلايلة إن خطاب الاندماج قد تجسد في الرغبة في تحسين مكانة المواطنين العرب، وخصوصاً من خلال الاعتراف بشرعيتهم السياسية، كما من خلال تحسين أوضاعهم الاقتصادية ـ الاجتماعية. كذلك، يمايز هذا الخطاب بين التيارات المختلفة في الحركة الصهيونية ويحاول، على هذا الأساس، بناء جسور للتواصل والتعاون مع التيارات الموجود في مركز الخارطة السياسية ويسارها، من أجل تحقيق هدف محدد هو إسقاط اليمين. ويطرح هذا الخطاب المطالبة بحقوق جماعية ويقبل، في الوقت عينه وبصورة مبدئية، إطار المواطَنة الإسرائيلية، ثم يطالب بتحويله من إطار إقصائي قائم على الانتماء الإثني ـ القومي إلى إطار مواطنيّ ليبرالي واحتوائي. ويقول خلايلة إنه بالإمكان وصف هذه الظاهرة وتفسيرها بكونها عملية تمركز (الانتقال نحو المركز ـ الوسط) الناخبين العرب.