في العام 1987، أصدرت دار النشر “مِفْراس” ترجمة عبريّة أعدّتها كاتبة هذه السطور لرواية الكاتبة الفلسطينية سحر خليفة عَبّاد الشمس. قراءتي للرواية أكّدت لي أمورًا كثيرة كنت قد تعلّمتها عن المجتمع الفلسطينيّ آنذاك من خلال تعرّفي عليه عن كثب، وذلك في السنوات الخمس التي عملت خلالها في التأمين الوطنيّ في القدس الشرقيّة. يبدو لي أنّ الصورة التي بنيتها في مخيّلتي كانت قريبة من الواقع، وبعيدة عن الصورة النمطيّة المُقَوْلَبة التي تَشيع في صفوف الكثير من الإسرائيليّين. على الرغم من ذلك، أضاف هذا الكتاب أبعادًا وتعقيدات وأطيافًا جديدة على تلك الصورة، وعمّقها، ووفّر لي تبصّرات جديدة ومثيرة.
صدرت عَبّاد الشمس بعد توقيع اتّفاقية السلام مع مصر، وقبل اندلاع الانتفاضة الأولى، ولكن الشرر يتطاير على امتداد الرواية، ولا سيّما في نهايتها، وينذر بإشعال حريق هائل. تدور أحداث القصّة بين القدس ونابلس، وتمثّل الشخصيّاتُ المركزيّة فيها طبقاتٍ وتيّاراتٍ في المجتمع الفلسطينيّ في تلك الأيّام: الصحفيّ المثقّف، ابن العائلة المفتقرة التي امتلكت الكثير من الأراضي، والذي يحاول إنقاذ صحيفته المتداعية؛ وأخوه الصغير الذي قضى مدّة وراء قضبان السجن الإسرائيليّ صقل خلالها هُويّته القوميّة والطبقيّة، ويتحسّس إمكانيّة التعاون مع نشاط شرقيّ من معسكر السلام الإسرائيليّ؛ وصحفيّة، وربما شاعرة، مناضلة نسويّة تحاول تبوُّؤَ المنصب الذي يليق بها في الصحيفة؛ وأرملة مقاتل مشهور، تعيل أولادها الخمسة بالحياكة لشركات إسرائيليّة، وتسعى لتوفير بعض المال كي تتخلّص من الحياة في أزقّة المدينة السفلى، ومن القيل والقال، وتبني بيتها على الجبل؛ ولاجئة بائسة من يافا، من سكّان المخيم، عانت -بالإضافة إلى حياة اللجوء- من زواج فُرِض عليها عَنوةً، واعتداءاتٍ متكرّرةً عليها في منزل أهلها عندما كانت طفلة صغيرة، ومن نظرة أهل نابلس المتعالية تجاهها، ومن حقيقة أنّ أولادها قد انتُزِعوا منها بالقوّة، لكنّها -في المقابل- سليطة اللسان، ولا ينجو أحد من سهام نقدها اللاذع.
قصّة سحر خليفة، بشخصيّاتها المركزيّة والهامشيّة، وبحكاياتها التي تتقاطع وتُحاك واحدةً داخل الأخرى، عزّزت لديّ إدراك أهمّيّة نشر ترجمات من الأدب الفلسطينيّ بخاصّة، والأدب العربيّ بعامّة، وعرْضها على قرّاء اللغة العبريّة، كأيّ أدب مترجَم آخر. يمكن لترجمات من هذا النوع أن تشكّل بالنسبة للقارئ جسرًا، أو على الأقلّ نافذة أوسع على واقع جيراننا (القريبين والبعيدين) ذي الأوجه المتعدّدة.
على امتداد السنين، ترجمتُ كتبًا من الأدب اللبنانيّ والمصريّ والسودانيّ، إضافة إلى الأدب الفلسطينيّ. وباستثناء أعمال سحر خليفة وفدوى طوقان الفلسطينيّتَيْن، لم تتناول الكتب الأخرى في قائمة ترجماتي موضوع الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ. الحديث يدور هنا عن أدب يوسّع الآفاق ولا يعرض عالم الجيران بطريقة اغترابيّة أو غرائبيّة، بل يلمّح أو حتّى يشير بوضوح إلى مسائل وتوتّرات ونضالات، وتقلّبات في حياة أشخاص ينتمون لدوائر واسعة في المجتمع العربيّ. عبْر أساليب وأدوات فنّيّة متنوّعة، يتناول الأدباء العرب (تعمّدًا، أو دونما تعمُّد) صراعَ الأجيال، والفروق بين الطبقات والطوائف، والتحدّيات الماثلة أمام النساء في عالم الرجال، والمتديّنين مقابل العَلمانيّين، والمحافظين مقابل مَن يسعون نحو الحداثة، ويتناولون كذلك نضال الإنسان البسيط في مواجهة السلطة. وكما هو الشأن في الآداب الأخرى، لا يكتفي الأدب العربيّ بطرح أسئلة سياسيّة واجتماعيّة، بل يتناول كذلك مسائل أو قضايا وجوديّة كونيّة. وعلى الرغم من مكوّنه المتخيّل، يوفّر الأدب العربيّ لقرّائه صورة غزيرة وصادقة أكثر من تلك التي توفّرها وسائل الإعلام عبر مقابلاتها السطحيّة، وتقاريرها المنقوصة، وتحليلاتها المقتضبة، والتصريحات الغوغائيّة أو الدبلوماسيّة التي تعزّز الشعور بأنّ المخفى أعظم. إنّه أدب يُطلِق أصواتًا نقديّة صريحة في بعض الأحيان، وخفيّة في أحيان أخرى، ومفاجِئة وغير متوقّعة بالنسبة لمن اعتاد على ألّا يستقي معلوماته إلّا من وسائل الإعلام.
وعلى الرغم من المجهود الجبّار والعمل المتفاني اللذين تقوم بهما دار النشر “مِفْراس” ودار النشر “أندلس” غير التجاريّتين، واللتان أصدرتا وسوّقتا ترجماتي وترجمات غيري من الأدب العربيّ، فإنّ هذه الكتب لم تصل إلى الكثير من القرّاء. وقد اعتدت على القول إنّني أترجم من أجل رفوف المكتبات؛ وهذا أمر مهمّ لكنّه مؤسف كذلك. في الآونة الأخيرة، ثمّة ما يدعو إلى التفاؤل؛ إذ أُسّس قبل نحو نصف عام منتدى المترجمين من العربيّة إلى العبريّة في فان لير، وها هو قد نجح في مَهَمّته الأولى، ألا وهي إخراج الكثيرين منّا من عزلتهم المهنيّة. انضمّ إلى مجموعة المترجمين المخضرمين مترجمون شبّانٌ جُدُد تدبّ الحيويّة في عروقهم. ويضمّ المنتدى كذلك باحثين ومترجِمين يتناولون الشعر والنثر، المكتوبَ منه باللغة العربيّة الكلاسيكيّة وذاك المكتوبَ بالعربيّة العصريّة، المطبوعَ منه والإلكتروني، وكذلك انضمّ أشخاصٌ يملكون تجربة ثريّة ومتنوّعة، ويستطيعون مواصلة الترجمة أو تقديم الدعم والمشورة، إلى جانب مترجمين لا زالوا في بداية مشوارهم الاحترافيّ. سيكون لزامًا على المنتدى أن يتعامل مع أسئلة ليست بيسيرة: ما الذي نختاره من الفيض الأدبيّ الجديد الذي يَصدر اليوم في أرجاء العالم العربيّ، إلى جانب الأدب الكلاسيكيّ والأدب الحديث؛ كيف نُقْنع الكتّاب العرب أن يمنحونا علنًا (أو حتّى خفية) حقوق نشر ترجمات أعمالهم (إذ يبدو أنّ غالبيّتهم غير متحمّسين لهذا الأمر)؛ كيف نقنع دور النشر التجاريّة بأن تستثمر في عمليّة تشخيص وترجمة ونشر الأدب العربيّ (حتّى الآن صدرت هذه المبادرات عن باحثين ومترجِمين حاولوا إثارة اهتمام دور النشر، ولم تَصدر عن دور النشر إلّا في ما ندر)؛ هل نقوم بتحرير موادّ أدبيّة لم تخضع للتحرير في الأصل (وهي مشكلة شائعة في الأدب العربيّ)؛ كيف نحسّن معايير التحرير اللغويّ العبريّ للترجمات من الأدب العربيّ، وكيف نهتمّ بأن تتوافر لدى محرّري التراجم مَلَكة اللغة الأصليّة، وأن ينفتح هؤلاء على أنموذجات مرنة للعبريّة تختلف أحيانًا عن تلك المعمول بها عند الترجمة من اللغات الغربيّة؛ كيف نحصّل الميزانيّات للترجمة والتحرير والنشر؛ وفي النهاية: كيف نقنع قرّاء العبريّة بأنّ الأدب العربيّ يشكّل مصدرًا لمتعة لا تقلّ عن تلك التي توفّرها ترجمات من لغات عالميّة أخرى؟
ثمّة احتمال أن ترتفع حظوظ إثراء المكتبة العبريّة بالكتب المترجمة من العبريّة وتسهيل وصول القارئ العبريّ إليها، وذلك بمساعدة موارد المعرفة الغنيّة التي يُحْضِرها أعضاء المنتدى معهم، وبعقْد الأمل في أن يحصّلوا معًا دعمًا ماليًّا وإداريًّا مؤسّسيًّا. وكمجتمع يعيش في قلب الشرق الأوسط، لكنّه يجهل هذا الشرقَ، ويدير له ظهره، لا بدّ أن نستفيد من هذه الترجمات.
ترجم المقال للعربية: جلال حسن
راحيل حلبه، مترجمة للعبرية من الأدب العربي الحديث وتدرّس اللغة العبرية التوراتية والحديثة. تدرّس هذا العام بجامعة بكين في بيجين.