الأدب هو قلبُ المجتمعِ النابضُ. هو ضمير وبوصلة الشعب، وفضاء من الحرّيّة يتجاوز ما يحدث الآن في هذا المكان (أو ذاك). وهو كذلك مرآة تكشف عن المكنونات، وعن تيّارات الأعماق قبل أن تنبلج وتطفو على السطح. وحتّى في عصر التكنولوجيا الذي يشهد عزوفًا شديدًا عن الأدب، ما زال هذا الأخير يتبوّأ مكانة أخلاقيّة وقِيَميّة بالغة. وكما علّمنا سارتر، ثمّة حاجة إلى “أدب ملتزم” يعمل في سبيل تحقيق التغيير الاجتماعيّ، لا سيّما في الأماكن التي تشهد صراعات وتعيش فيها فئات مقموعة. وقد آمن هذا الفيلسوف الفرنسيّ، بعد انتهاء الحرب العالميّة بقليل، أنّ من شأن الأدب أن يقرّب بين النخب ومجموعات الأقلّيّة، وأن يعمل كي تصبح هذه المجموعات “حاضرة” في صفوف الجمهور الواسع.
قد يبدو هذا هدفًا بالغَ الطموح (والادّعائيّة)، لكنّنا ارتأينا أن نعرض من على هذا المنبر عيّنات متواضعة من الأدب الفلسطينيّ الذي يُكتب في إسرائيل كي نقرّب إليه القرّاء من أبناء الشعبين. هذا الأدب يشكّل -بطبيعة الحال- جزءًا طبيعيًّا من الدائرة الأوسع للأدب العربيّ بعامّة والأدب الفلسطيني بخاصّة، ويشكّل كذلك جزءًا لا يتجزّأ من الكنوز الثقافيّة والفكريّة والنقديّة والأدبيّة لهذه البلاد. يتميّز هذا الأدب بثرائه، ويعبّر عن الوضعيّة الخاصّة للفلسطينيّين مواطني دولة إسرائيل. بطبيعة الحال، معظم هذا الأدب كُتب باللّغة العربية، لكنّ جزءًا مهمًّا منه كُتب باللغة العبريّة، كرواية أنطون شمّاس العظيمة عربسك، وأعمال سيّد قشوع الأدبيّة، وكُتُب أيمن سِكْسِك. تنضاف إلى ذلك الأعمالُ الأدبيّة المترجَمة إلى العبريّة، نحو رواية إميل حبيبي المتشائل التي ترجمها أنطون شمّاس، ومجموعة علاء حليحل القصصيّة كارلا بروني عشيقتي السرّيّة التي ترجمتها بروريا هوروفيتس، ومجموعة القصص القصيرة نكبة لايت وقصص أخرى التي حرّرها وأصدرها الطيّب غنايم ويوسي غرنوفسكي في العام 2015.
يستعرض سلمان ناطور باقتضاب تاريخ هذا الأدب، ويساهم بمقطوعة صغيرة من روايته وما نسينا: “سيرة الشيخ مشقّق الوجه” التي تعالج موضوع النكبة. ويتوقّف محمود كيّال عند “تداخل اللغة العبريّة في الأدب العربيّ”، بينما يقوم رئوبين سنير بالرّبط بين عملاقَيِ الكتابة الفلسطينيّة إميل حبيبي ومحمود درويش اللذين شهدت علاقتهما الكثير من المنعطفات، إلاّ أنّ كلاًّ منهما قد أثّر في الآخر.
المكان والزمان هما أساسا الأدب الصُّلبان (“الخرونوطوب” (“الزمكانيّة”) –بحسب تعبير أنطون باختين) اللذان تربط بينهما علاقةٌ غيرُ قابلة للانفصام. منذ العام 1948، انقلب إيقاع الزمن رأسًا على عقب في الحالة الفلسطينيّة؛ وأمّا المكان الذي يعيشون فيه فقد تغيّرت معالمه تمامًا. هذان الجانبان تتناولهما مقالتان: واحدة كتبتها أريئيل شيطريت حول مفهوم المكان في الأعمال الأدبيّة لدى الكاتب إياد البرغوثي ابن عكّا، وأمّا محرّرة هذه المجلّة فتُعرّف الزمن في رواية أنطون شمّاس المهمّة عربسك التي كُتبت باللغة العبريّة بأنّه “زمن مُشَظًّى”.
يقدِّم العدد الحاليّ كاتبتين ما زالتا في بداية مشوارهما هما: أحلام كبها التي تكتب باللغة الألمانيّة وتغوص في هُويّتها كمرأة فلسطينيّة وُلدت في ألمانيا، وشيخة حسين حليوي التي تتخبّط حول مواضيع كتابتها وطابع هذه الكتابة، وتعرض هنا بعض المقاطع الصغيرة التي تعبّر عن هذه التخبّطات.
العلاقات المتبادلة بين الأدب العبريّ والأدب العربيّ الذي يُكتب في البلاد تتجسّد -في ما تتجسّد- في الترجمة. تتحدّث راحيل حلبة عن تجربتها كمترجمة للأدب العربيّ، وعن “منتدى المترجمين” الذي أُسّس مؤخّرًا في معهد فان لير بمبادرة وقيادة يهودا شنهاف- شهرباني، والذي يحاول تنشيط حركة الترجمة المتبادلة التي تتّسم -لشديد الأسف- بالضعف والهزال.
بطبيعة الحال، ليس ثمّة متّسع في هذه المجلّة إلاّ لمقالات قصيرة مقتضبة، يتلخّص مسعاها في إثارة الفضول والرغبة في توسيع آفاق الفكر، وهذا ما نتمنّاه ونطمح إليه. الأدب هو وسيلة للتواصل بين الأفراد وكذلك بين الشعوب، حتّى في الفترات الدمويّة والعنيفة -وهذا ما نبتغيه.
على الرغم من أنّنا في هذه المرّة نطرق باب الأدب القَصَصيّ لا باب الشعر، نختتم العدد بقصيدة لو طُلب إليّ! لـ مرزوق الحلبي، يتحدّث فيها عن طموح الكاتب، وعن الكتابة، ويختمها بهذا البيت:
أكتب سيرتي فقط
يسرّني أن تتفقوا معي
ولا يؤسفني أن نختلف
نأمل أن هذا العدد من مجلة منبر إعجابكم ويسرّنا تلقّي ملاحظاتكم وردود أفعالكم.
ساره أوستسكي-لزار – المحرّرة
حنان سعدي ويونتان مندل- عضوا هيئة التحرير