الفرضية الشائعة بين أوساط اليسار في إسرائيل، بما في ذلك معظم ممثلي وممثلات القائمة المشتركة، هي أن إنهاء الاحتلال في حدود 1967 وإقامة دولة فلسطينية في تلك المناطق، قد يفضي إلى معاهدة سلام بين الشعبين. في إطار هذه الرؤية، تبقى بنية نظام الحكم في إسرائيل على ما هي عليه، إلى جانب الدولة الفلسطينية المستقبلية. لكن من المهم أن نسأل: هل يمكن، حقًا، تحقيق مصالحة بين الشعبين بينما تبقى البنى السلطوية في إسرائيل ذاتها على حالها؟
يمثل قرار الحكم القضائي الذي أصدرته “محكمة العدل العليا” في قضية عائلة قعدان إحدى المحاولات الأكثر جديّة لصياغة وتصميم مواطنة إسرائيلية متساوية بين اليهود والعرب ضمن حدود 1948. وقد أكد القاضي أهارون براك في قراره، الذي وافقت عليه أغلبية القضاة في التركيبة القضائية التي بحثت الموضوع، إن الأرض التي خصصتها الدولة للوكالة اليهودية وللجمعية التعاونية لا يمكن تسويقها لليهود فقط، لأن ذلك يعني تمييزًا مرفوضًا. على المستوى المبدئي والأوسع، أكد القرار أن على الدولة أن تعتمد نهج المساواة التامة في الحقوق بين اليهود والعرب. لكن يتعين الانتباه، في المقابل، إلى أن براك أراد إرساء وتثبيت “قانون العودة” (חוק השבות) وحق اليهود الحصري في الهجرة إلى البلاد. فقد كرّر المواقف ذاتها التي أوردها في محاضرة ألقاها سنة 2000:
من المهمّ، في نظري، التوقف عند الفجوة بين موقف أهارون براك الذي ادعى في قراراته القضائية، أكثر من مرة، بأنها تعكس موقف الجمهور المتنور في إسرائيل، وبين المطلب الذي تطرحه الحملة الاحتجاجية الأبرز التي ينظمها الجمهور الفلسطيني خلال السنوات الأخيرة ـ مسيرات العودة (שיבה) عند السياج الحدودي في قطاع غزة. فكما هو معروف، جرت في كل يوم جمعة وعلى مدار فترة طويلة، مسيرات حاشدة قوبلت بسياسة إطلاق النيران الحية الوحشية من جانب الجيش الإسرائيلي. ويذكر المتابعون، بشكل خاص، صورة الفتاة رزان النجار، المتطوعة ضمن الطواقم الطبية الفلسطينية، التي قُتلت بالرصاص الحيّ وهي تحمل بيدها لافتة على شكل مفتاح، رمز العودة الفلسطينية، كُتبت عليها عبارة “أنا عائدة”. فهل مفتاح الدخول إلى البلاد موجود في أيدي الجماعة اليهودية، بشكل حصري، حقًا؟
ينبغي التنويه بأنه إضافة إلى قضية العودة (שיבה) / العودة (שבות)، أراد أهارون براك في قراره المذكور أعلاه، أيضًا، إرساء وتثبيت تاريخ الاستيطان اليهودي (الذي يمكن فهمه بأنه تاريخ نهب الشعب الفلسطيني) في البلاد. وهذا ما يكتبه:
“هذا التماس يحاول استشراف المستقبل، بالأساس. لا يقصد الملتمسون وضع السياسة المستمرة منذ سنوات كثيرة تحت مبضع الرقابة القانونية؛ وهي السياسة التي أقيمت بموجبها وفي إطارها في مختلف أنحاء البلاد (بدعم المؤسسات الاستيطانية) بلدات ـ قرى تعاونية (كيبوتسات)، قرى زراعية (موشاڤيم) ومناطر (متسبيم) ـ سكن فيها في الماضي، كما يسكن فيها اليوم أيضًا، وعلى الدوام تقريبًا، اليهود فقط. لا يركّز الملتمسون ادعاءاتهم حول شرعية السياسة التي سادت في هذا المجال خلال الفترة التي سبقت قيام الدولة وخلال السنوات التي مرّت منذ إقامتها، بل إنهم لا يعترضون حتى على الدور الحاسم الذي لعبته الوكالة اليهودية في الييشوف”. (فقرة 37)
إذن، النموذج الذي تقترحه المحكمة العليا في قرارها هذا، الذي يشكل سابقة قضائية، يمنح الجمهور العربي في نطاق حدود 1948 مواطَنة متساوية، لكنه يسعى في المقابل إلى تكريس الهيكلية السياسية التي أرست وتستنسخ امتيازات الجماعة اليهودية في الحق على البلاد، وخصوصًا في مجالات الهجرة والاستيطان / السكن. في هذا النقاش، حول حق العودة/ قانون العودة وسياسة الأراضي والاستيطان، بالإمكان إضافة مسألة تعريف الدولة كدولة يهودية؛ الصلاحية القانونية التي مُنحت (ولا تزال سارية المفعول) للمنظمات الصهيونية، مثل “الصندوق القومي اليهودي” (كيرن كييمت ليسرائيل) والمنظمة الصهيونية العالمية، من أجل تهويد البلاد؛ مسألة الرموز الدولتية (العلم، النشيد الوطني) وغيرها. إضافة إلى المحكمة العليا، كذلك معسكر اليسار في إسرائيل ـ منظمات المجتمع المدني، الأحزاب المحسوبة على اليسار الصهيوني، مؤسسات أكاديمية ـ لا يعتزم تحدّي البنية المؤسساتية الإسرائيلية، بل يجتهد ليستخرج منها إمكانية العيش الديمقراطي والمتساوي.
يُسأل، إذن، السؤال التالي: هل ثمة احتمال لعقد المصالحة بين الشعبين على أساس حل الدولتين، فلسطين في حدود 1967 إلى جانب إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية بالتعريف؟ إنه سؤال حاسم ينطوي تجاهله على خطر جدي وحقيقي:
بعد أن أعلن إيهود براك أنه “لا شريك فلسطيني”، إثر عدم الاتفاق ـ ضمن أشاء أخرى ـ بشأن حق العودة، تبنى الجمهور الإسرائيلي، عمليًا، الفرضية القائلة بأن الصراع غير قابل للحل في هذه الوقت الراهن. من هنا، كانت الطريق نحو تعاظم قوة اليمين الإسرائيلي قصيرة للغاية. وعليه، فحينما نُقدم على بناء معسكر يساري ذي صوت واضح وحازم، ينبغي علينا إعلان موقف، أيضًا، بشأن القضايا التي تخصّ الترتيبات الدستورية المعتمَدة في إسرائيل نفسها.
أكثر من هذا: قضية 1948 مرتبطة بقضية أخرى ذات تأثير حاسم على احتمال المصالحة بين الشعبين ـ تاريخ الجمهور المشرقي في البلاد. لكي نفهم سبب توجس هذا الجمهور وارتياعه من معسكر السلام الإسرائيلي، بل عدائه الواضح له في بعض الأحيان، تنبغي العودة إلى العقود الأولى بعد قيام دولة إسرائيل، والتي عانى الجمهور المشرقي خلالها من ممارسات مختلفة تراوحت بين الإقصاء والتهميش، الإخضاع والسيطرة، وحتى الجرائم العنصرية. من غير الممكن فهم صعود “الليكود” إلى سدة الحكم بفضل القاعدة الانتخابية المشرقية الجدية من دون العودة، على سبيل المثال، إلى قضايا مثل قمع احتجاجات وادي الصليب والفهود السود، أو قضايا تاريخية أخرى مثل قضية الأطفال الذين أصيبوا بمرض سعفة الرأس أو قضية أطفال اليمن وبلدان المشرق والبلقان.
في هذا السياق، يجب فهم العلاقة بين “سلسلة الغذاء” الإسرائيلية، التي تشكلت منذ قيام الدولة، وبين الاحتلال في العام 1967. فقد وجد جمهور واسع من اليهود المشرقيين ضالته والحل المنشود لأوضاعه الاقتصادية المتردية، نتيجة التمييز المؤسساتي المنهجي، في الأفق الاقتصادي الجديد الذي انفتح في الضفة الغربية وقطاع غزة ـ مستوطنات الرفاهية أعِدّت، بين أشياء أخرى، لتكون الردّ على المطالب المشرقية في مجال الأراضي والسكن. وعلى نحو مماثل، كانت الخدمة في الأجهزة الأمنية، في خدمة الاحتلال أيضًا، مصدر عمل ثابتًا للمجموعات التي أعدِّت لتكون “حطابين وسقاة ماء” للمجتمع الإسرائيلي. في المقابل، وخلال العقود الأولى من الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، حلّ عمال “التنقّل” الفلسطينيون مكان أبناء الطبقة المشرقية الدنيا في الأعمال اليدوية.
في موازاة ذلك، وكأنما هي صورة مرآوية، كانت لدى مجموعة الغربيين (الأشكنازية) العلمانية في إسرائيل مصلحة في اعتبار احتلال العام 1967 نقطة الصفر في الصراع، إذ كانت المجموعة التي استفادت من الطرد والتهجير والنهب عقب حرب العام 1948. من وجهة النظر المشرقية، يمكن أن نسأل: لماذا تشكل مستوطنة مثل “معاليه أدوميم” أو “أريئيل” عقبة أمام تحقيق السلام، بينما الأراضي المُصادَرة في الجليل والتي وُضعت تحت سيطرة المجالس الإقليمية، أو “أملاك الغائبين” الفلسطينيين التي مُنحت في غالبيتها للأشكناز، ليست جزءًا من المعادلة؟
خلاصة القول إن الحاجة إلى إصلاح تاريخي، سواء حيال الشعب الفلسطيني أو حيال الجمهور المشرقي، من شأنه أن يعيدنا إلى الطابع الاستعماري للنظام في إسرائيل حتى قبل احتلال العام 1967، بل وقبل إقامة الدولة أيضًا. في الوقت الذي ينبغي فيه النظر في السياق الفلسطيني إلى ممارسات السلب والتطهير العرقي في مجالات مثل الهجرة والاستيطان، ينبغي البحث في السياق المشرقي في أشكال مختلفة من الإقصاء، الإخضاع والجرائم العنصرية. وكما أسلفت آنفًا، فقد ارتبطت هذه الأمور وتواشجت معًا. وتبيّن تجربة العقود الأخيرة أن محاولات تحقيق المصالحة والسلام من خلال تطبيع (بل وتعظيم) طريقة الحكم في إسرائيل والتاريخ الصهيوني، هي محاولات محكومة بالفشل مسبقًا وتؤدي إلى تعاظم قوة اليمين الإسرائيلي، بصورة حتمية. عِوضًا عن ذلك، علينا فهم حقيقة أن عملية تفكيك الاستعمار وإنهائه في داخل حدود 1948 هي عنصر أساسي ومركّب حاسم، بل شرط ضروري ربما، في إمكانية إنهاء الاحتلال في مناطق 1967.
توم مهاجرتوم مهاجر هو ناشط مشرقيّ، ينشر مقالات رأي في مواقع “اللسعة” (هعوكتس)، +972 و Middle East Eye