في كتابه Minorities at Risk استعرض تيد غور (Gurr)، أحد أبرز وأهمّ الباحثين في مجال الصراعات السياسية، أوضاع 230 جماعة أقلية في مختلف أنحاء العالم، ثم خلص إلى الاستنتاج بأن أمام الأقليات ثلاث استراتيجيات محتملة: (1) النضال غير العنيف؛ (2) النضال العنيف؛ (3) ثورة / انقلاب / عصيان مدني. وبينما هدف النضال بكلا نوعيه هو ممارسة الضغط على صنّاع القرارات بغية إجراء تغيير سياساتيّ يخدم مصالح الأقلية، فإن هدف الانقلاب هو إحداث تغيير جذري في نظام الحكم وموازين القوة بين المجموعات المتنازعة. حين يتدخل طرف خارجي قوي لمصلحة الأقلية، تصعّد الأقلية من مَطالِبها. وفي المقابل، الأقلية التي لا تحظى بدعم كهذا، أو تحظى بدعم من طرف ضعيف، تعاني من دونية سياسية وتتأقلم مع سياسة القمع والاضطهاد التي تمارسها الأغلبية. وعلاوة على هذا، ثمة لجودة النظام الديمقراطي تأثير مباشر على مطالب الأقلية.
أدّعي، في هذه المقالة، بأن الطريق إلى تحقيق أهداف الأقلية الفلسطينية في إسرائيل هو طريق الشراكة اليهودية ـ العربية العميقة والتي ساهمت في الدفع نحوها الجولات الانتخابية الثلاث الأخيرة، كثيراً. مَطالب الأقلية الفلسطينية في إسرائيل هي مطالب من النوع الثالث المذكور أعلاه ـ مطالب بإحداث ثورة؛ والاستراتيجية الوحيدة المتاحة أماها من أجل ذلك هي استراتيجية النضال غير العنيف. زد على ذلك أن الأقلية الفلسطينية في إسرائيل لا تحظى بدعم من طرف خارجي قوي يتدخل لصالحها، وأن دولة إسرائيل لا تمتاز بديمقراطيتها النوعية بشكل خاص، في كل ما يتعلق بتعاملها مع الأقليات. من أجل تحقيق المَطالب السياسية للفلسطينيين في إسرائيل، والتي تشمل إحداث تغيير جذري في منظومات الحكم وموازين القوى بين المجموعتين، يجب اقتراح صيغة تضمن أن تعود بالنفع على المجموعتين. لهذا الغرض، ينبغي تبني خطاب المصالح المشتركة، وليس الخطاب الأخلاقويّ الذي يتحدث عن العدل التاريخي، فيما يعود أحد الطرفين مائة عام إلى الوراء بينما يعود الآخر ألفيّ عام إلى الوراء.
بالإمكان بناء خطاب لمصالح مشتركة تؤسس لشراكة سياسية عميقة بين اليهود والعرب، شراكة يشكَل فيها الاعتراف بسرديّة الطرف الآخر مصلحةً للطرف الأول. لذلك، من شأن الشراكة السياسية الحقيقية أن تؤدي إلى مصالحة بين الشعبين، في صلبها اعتراف إسرائيل بالنكبة كحدث هي المسؤولة الرئيسية عنه، ولذا فهي تتحمل مسؤولية الإصلاح التاريخي. من الجهة الأخرى، اعتراف الفلسطينيين بحق تقرير المصير لليهود في دولة إسرائيل، مما يساهم في تخفيف حدة “خوف” اليهودالذي يسمح لشعبويين كثُر باستغلاله بدوافع ولأهداف تنتهك الديمقراطية والعديد من المبادئ القيّمة والهامة لدى الأغلبية اليهودية في دولة إسرائيل.
عندما يتحقق التغيير السياسي وتتحرك المنظومة من نقطة الصفر (نقطة 0) إلى النقطة الأولى (نقطة 1)، فلا يعود من الممكن أن تعود إلى النقطة 1، حتى لو تغيرت السلطة، وإنما تستمر بالتقدم إلى أمام، من النقطة 1. يمكن العثور على أمثلة لذلك في أية منظومة سياسية، محلية أو دولية. منها، على سبيل المثال، في سياق علاقات الدولة مع الفلسطينيين في إسرائيل، وبعد أن صادقت حكومة رابين الثانية في العام 1992 على خطة لسدّ الفجوات بين اليهود والعرب، نلاحظ أن جميع الحكومات التي أعقبتها تلوّح بخطط كهذه، فكانت الأخيرة من بينها الخطة رقم 922 التي أقرتها حكومة نتنياهو الرابعة في اليوم الأخير من العام 2015، ومن المرجح أن تتقدم حكومة نتنياهو الخامسة، أيضًا، نحو بلورة وإقرار خطة جديدة وفق المبدأ عينه. المسافة بين النقطة 0 والنقطة 1 هي مسافة قصيرة في الغالب، الأمر الذي يفسر حقيقة أنّ التغيير السياسي، عادة، هو نتيجة سيرورة تشمل سلسلة من الخطوات الصغيرة، وليس خطوة كبيرة واحدة. ثمة بين الحين والآخر مفترقات حاسمة (أو فاصلة)، أي لحظات فارقة، تؤدي إلى تغيير مؤسساتيّ جوهريّ يخلق “نقطة تفرّع تتحرك منها التطورات التاريخية نحو مسار جديد”، كما ادعى بيتر هول وروزماري تايلور. أحداث من هذا القبيل حصلت مرتين بين 1992 و1995. الحدث الأول حين عقد رابين تحالفًا مع العرب والحدث الثاني حين اغتيل رابين. في الأول، اُسبِغت الشرعية على الصوت العربي وعلى الوزن السياسي للعرب، مما أتاح تنفيذ خطوات وإطلاق سيرورات تاريخية. في الثاني، انتُزعت هذه الشرعية، مما أسهمَ في وقف تلك السيرورات التاريخية.
الخطوة التي لم يخطُها بيني غانتس في آذار 2020، حين قلب ظهر المجنّ للكتلة التي أوصت عليه والتحق بنتنياهو، كان من الممكن أن تشكل “مفترقًا تاريخيًا فاصلًا”، ومن المرجح أنها كانت ستختصر الطريق نحو تأسيس شراكة سياسية عميقة وأن تقود المنظومة السياسية بأسرها نحو مسار جديد كان من المحتمل أن يخلق فرصًا جديدة للحياة المشتركة. غير أن تلك الخطوة أوضحت للمعنيين بالشراكة، أيضًا، أنه ليست ثمة طرق مختصرة، بل يحتاج الأمر إلى سيرورة طويلة، خطوة إثر خطوة، ولبِنة فوق لبِنة، من أجل بناء الشراكة المرجوّة وتحصينها في وجه معارضيها الكثيرين. التغيير الكبير تمهيدًا للشراكة العميقة هو نتاج سيرورة طويلة، وليس نتاج خطوة صغيرة واحدة.
لكن، ثمة تغيير بالرغم منذ لك. أحد العوامل المُهيِّئة للتغيير، طبقًا للنهج النيو ـ مؤسساتي (المؤسساتي الجديد)، هو الخطاب. فالخطاب هو عملية تفاعلية لنقل الأفكار (إذ تكون الأفكار هي المضمون الجوهري للحوار، لكن ليس الحوار كله بأكمله). والخطاب يشمل ليس فقط المضمون الجوهري للأفكار، وإنما أيضًا السيرورات التفاعلية التي يجري نقل الأفكار بواسطتها. الجولات الانتخابية الثلاث الأخيرة للكنيست، والتي جرت بين نيسان 2019 وآذار 2020، عمقت من خطاب الإقصاء بحق العرب، والذي شمل أيضًا أفكارًا خطيرة جدًا على الديمقراطية. في المقابل، أعادت هذه المعارك الانتخابية إلى واجهة المنصة، مرة أخرى، خطاب التأثير الذي يشمل أيضًا أفكار الشراكة. هذه السيرورات، التي انتقلت من خلالها هذه الأفكار، أوجدت مؤيدين إضافيين آخرين لفكرة الشراكة. هذا يعني أن خطاب التأثير، المكّون من أفكار الشراكة ومن السيرورة التي انتقلت عبرها ومن خلالها بصورة مكثفة خلال المعارك الانتخابية الثلاث الأخيرة، قد خلق واقعًا من الشراكة. في واقع الشراكة السياسية هذا، اضطر محللون سياسيون في وسائل الإعلام المركزية المحافِظة، المعبِّرة عن الأغلبية اليهودية، إلى أخذ ممثلي المشتركة في الحسبان وهم يحللون للجمهور الاحتمالات المتاحة أمام كل من المرشحين لتشكيل حكومة جديدة. وإلى جانب ذلك، اضطر مرشحون من أحزاب لم تؤيد مشاركة العرب في الحكومة تاريخيًا إلى الحديث عن ذلك بغير تردد وتحدثت النشرات الإخبارية المركزية وعناوين الصحف، كل الوقت، عن مواقف اللاعبين السياسيين المختلِفين بشأن مشاركة القائمة المشتركة في الائتلاف أو بدعم من الخارج، ككتلة مانعة.
لم يكن هذا الخطاب قائمًا في الماضي غير البعيد، حتى أنه لم يُسمع تمامًا في انتخابات نيسان 2018، لكنه اكتسب شرعية مع إعادة تشكيل القائمة المشتركة عشية انتخابات أيلول 2019، ثم تعاظم واتسع عشية انتخابات آذار 2020. معنى هذا، أن سنة الانتخابات بين نيسان 2019 وآذار 2020 قد حرّكت سيرورة الشراكة السياسية، التعبير الفكري عن خطاب التأثير. هذه هي النقطة 1 ويبدو أنه من غير الممكن العودة منها إلى الخطوة 0، ما يعني أنه لم يعد من الممكن، من الآن فصاعدًا، تجاهل ممثلي الجمهور العربي وأن الطريق نحو الشراكة قد أصبحت هي الطريق نحو تغيير الحكم في إسرائيل، جوهريًا.
سامر سويد هو طالب دكتوراة في قسم العلوم السياسية في جامعة حيفا. مدير المركز العربي للتخطيط البديل ومُيسِّر مجموعات ثنائية القومية في مدرسة السلام في “واحة السلام”.