غالبًا ما يصف الأدب الفلسطيني في شتّى مراحله المشاهد والأحداث التي تجري بمحاذاة الحدود أو الحواجز والتي يتداخل فيها الزمن الذاتي مع الزمن السياسي الوطني. يعتبر الوقوف عند الحواجز واحدة من الكينونات الفلسطينية المفصلية الهامّة، حسبما يوضح ذلك الباحث الفلسطيني رشيد الخالدي[1] عندما يقول إنَّ جوهر الكينونة الفلسطينية يتجلّى في المعبر: عند الحدود بين دولتين، في المطار، عند أحد الحواجز، أو عند مدخل أحد الأماكن العامة مثل محطة القطارات. عبر الوقوف عند الحواجز- سواء للمرور عبرها أم لا- تتجلّى التوترات الكامنة في الهوية الفلسطينية، لمجرد التمركز عند مفترق بين التوقعات، واللغات، والانتماءات. كما أنَّ الوقوف عند الحواجز يمنح انطباعًا مشاعريًا بالمكوث والإقامة وهذا بدوره يعتبر جوهريًا جدًا في الكينونة الفلسطينية، الشعور بالانتظار الأبدي- بما في ذلك انتظار الدولة والحقوق، وكذلك أيضًا الانتظار اليومي من أجل عبور الحواجز، وهي التجربة الملموسة والواقعية، بغية الوصول لمكان ما.
وقد نشهد تأصّل هذه القضية كموضوع أساس في الأدب الفلسطيني في البلاد، على سبيل المثال في القصة القصيرة الهامة للأديب إميل حبيبي “بوابة مندلباوم” (1959).[2] يصف إميل حبيبي في هذه القصة الكلاسيكية الأولى التي نشرها، والمعروفة بسبب أصداء السيرة الذاتية فيها، عائلة فلسطينية جاءت لغرض مرافقة الجدة للعبور إلى الجانب الآخر لبوابة مندلباوم، والتي كانت في حينه تحت سيطرة المملكة الأردنية واستخدمت حتى العام 1967 بوصفها معبرًا حدوديًا بين إسرائيل والضفة الغربية. وفقًا لما ورد في القصة ذاتها، فإنَّ الفلسطيني الذي ينتقل من الجانب الإسرائيلي إلى الجانب الأردني ليس بمقدوره مطلقًا العودة إلى الأراضي الإسرائيلية. ولذلك فإنه عندما تقرّر الجدة الانتقال للجانب الآخر بغية رؤية ابنتها التي بقيت خارج الحدود يتعيّن عليها الانفصال الأبدي من أفراد أسرتها الذين يقيمون في الجانب الإسرائيلي. ولكن التحوّل المفاجئ يطرأ عندما تجري الحفيدة وراء جدتها باتجاه الحدود التي لا يمكن تجاوزها، وتبرز هذه الخطوة مدى تعسف فكرة الحدود كحاجز ليس بالإمكان اختراقه: يتجاهل الجنود المرابطون على الحدود الطفلة، وتعود لأسرتها كما لو أنها لم تفعل قبل هنيهة عملاً لا يمكن القيام به. وخلال هذه القصة تتأمل الجدة في مجريات حياتها في القدس وتتمركز عند “عتبة بيتها”، وهو الأمر الذي يزيد من التركيز على مسألة المعابر والحدود.
وهكذا، فبعد أكثر من أربعين عامًا، فإنَّ الانشغال بمسألة الحدود وتناولها أصبحت ملموسة ومركزية أكثر من أيّ وقت مضى، مع تغيرات تعكس التحوّلات الزمنية. وكمثال على ذلك، نجد في قصيدة مروان مخول (وُلد في بلدة البقيعة عام 1979) بعنوان “عربي في مطار بن غوريون” أصداءً لهذا الانشغال. تجيب الشخصية الرئيسة في هذه القصيدة على أسئلة الفحص الأمني الذي يتم قبل الصعود إلى الطائرة. تسعى الشخصية بأجوبتها إلى الكشف عن القصد الكامن وراء الأسئلة الموجّهة نحوها، والكشف عن مدى الخطورة التي تشكّله، وترد على أسئلة جندية الأمن بأجوبة مجرّدة تتعلّق بذكرياتها الذاتية وبالذاكرة الفلسطينية الجمعية. وفي ردّها على سؤال: “هل أعطاك شخصٌ شيئًا ما في الطريق إلى هنا؟”، تجيب الشخصية، على سبيل المثال: “هو المنفي في النيرب[3] […]/ أعطاني الذكريات/ ومفتاحَ بيتٍ في الحكايات […]”.[4] وفي ردّها على سؤال هل من أداةٍ حادةٍ في حيازتك تجيب: عاطفتي […]/ بشرتي، وملامح القمحيّ فيّ […]”. وفي الختام، وبعد استجواب دام ساعتين، تسرع الشخصية للصعود إلى الطائرة: “[…] لا للذهاب/ ولا للإياب، بل لأرى جندية الأمن تحتي […]”. بالإمكان أن ندرك بأنَّ جندية الأمن ترمز لكل حرّاس المعابر والحدود، ولأسئلتهم الآلية ولعدم قدرتهم على رؤية إنسانية الشخص المستجوَب، تلك الإنسانية المشبّعة القصيدة بها بكافة ألوانها الزاهية والغنية. إنَّ القصيدة كلّها بمثابة اختراق للحدود: فالمتحدّث يتمكّن من اجتياز الفحص الأمني ويصعد إلى الطائرة في نهاية المطاف، وليس هذا فحسب بل إنَّ مجرد تحويل مدلول الأسئلة إلى أسئلة حول الهوية والانتماء الواسع جدًا هو طريقة لجعل هذا النص المألوف محلّ سخرية، وكذلك فضح ضيق أفق جندية الأمن.
كذلك تم التعبير عن واقع الحال عند الحواجز بصورة أدبية في قصص الأديب علاء حليحل (وُلد في العام 1974). يبحث الأديب في قصة “باسبورت” (2011) عن جواز سفره الذي عُلِّق في مكان ما في وزارة الداخلية بعد أن حصل على تأشيرة السفر لخارج البلاد. ومن جرّاء الحرب، أغلقت جميع فروع وزارة الداخلية أبوابها، ولهذا أضحى جواز السفر “عالقًا”، وهو الأمر الذي يجعل صاحبه عالقًا هو أيضًا. تروي القصة “رحلة” الأديب-البطل في أرجاء مدينة عكّا وهو يفتش عن طريقة بغية الحصول على جواز سفره، وهي رحلة أخفقت في مسعاها: فهو يتحدّث مع حارس الأمن الروسي، ويختبئ في السوق ليحمي نفسه من قذائف الكاتيوشا، وهي السوق ذاتها التي يشتري منها السمك الطازج، ويجلس في مطعم طوني، وينضم دون قصد لمظاهرة مناوئة للحرب. تتصل به والدته وتذكّره بنقطة عبور أخرى في المطار، سوف يقف عندها إذا ما حصل على جواز سفره، كما أنها تذكّره بأن يأخذ معه المأكولات الشهية والزعتر لأقاربه البعيدين- ويعتقد البطل أنَّ هذا الطلب مثير للسخرية وعفا عليه الزمن، وهو يبيّن الفجوة البارزة بين الأجيال.
تبيّن هذه القصة حالة الوقوف والانتظار عند الحواجز والمكوث الذي يتأتى في أعقابه، ذلك أنه ليس بسبب كونه فلسطينيًا ليس بحوزته جواز سفر، بل بسبب الحرب، هو الوضع الذي ينطبق على العرب واليهود على حدٍّ سواء. يجد البطل نفسه في فضاء الحدود بين الهويات: بما في ذلك تهديد قذائف الكاتيوشا الذي يؤكّد دائمًا على السخرية من كونه إسرائيليًا، وجواز السفر المنشود الذي سيفتح المعبر أمامه هو أيضًا إسرائيلي. في هذه القصة، وفي قصص أخرى من تأليف علاء حليحل، كما في قصة “المذقون”، بإمكاننا أن نعثر على تعبير لكون الدولة كلّها تتحوّل لمنطقة حدود تعجُّ بالحواجز غير الملموسة، وهو تغيير بارز من الحدود “الحقيقية” التي تمّ الحديث عنها في قصة مثل قصة الكاتب إميل حبيبي. يعتر فضاء الحدود في الأدب الفلسطيني المعاصر فضاءً يحتوي على توتّر بين الهويات، والانتماءات، واللغات والالتزامات، وبالأخص التناقضات التي يصعب تسويتها، والتي تطمس الفصل بين ” نحن” و “هم”. غدا فضاء الحدود فضاءً ثقافيًا وحسيًا، ويكشف عن المعاني الكثيرة للكينونة الفلسطينية في إسرائيل في القرن الحادي والعشرين.
د. أريئيل شيطريت تدرّس الأدب العربي الحديث في جامعة بن غوريون في النقب وتدرّس موضوع السينما الفلسطينية في الجامعة المفتوحة.
[1] يُنظر:Rashid Khalidi, 1997. Palestinian Identity :The Construction of Modern National Consciousness, New York: Columbia University Pres.
[2] إميل حبيبي (1968). “بوابة مندلباوم”، ضمن: سداسية الأيام الستة وقصص أخرى، حيفا: مطبعة الاتحاد التعاونية.
[3] النيرب هو مخيّم فلسطيني يقع بجوار مدينة حلب السورية.
[4] مروان مخول (2011). أرض الباسيفلورا الحزينة: شعر. بيروت: دار الجمل.