إن قصة تطوّر الصحافة العربية في إسرائيل شبيهة بقصة تاريخ المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل. في أعقاب حرب 1948 والتي عانى فيها المجتمع الفلسطيني من خراب هائل لبنيته ومؤسّساتها القائمة وتلك التي كانت في طور البناء، ومن بين جملة الأمور التي تضررت ، كان اندثار الإعلام واقتلاع النخبة الفكرية. كما وانقطعت الأواصر الثقافية المباشرة بين البقية الباقية من العرب الفلسطينيّين في البلاد وبين المحيط العربي بصورة شبه كاملة. بعد هذه التحوّلات عظيمة الأثر، بدأت عملية إعادة ترميم النشاط الصحافي، واستمرت منذ إقامة الدولة ولا زالت حتى يومنا، ويمكن تقسيمها إلى أربع فترات على النحو التالي: 1948—1967، 1967—1983، 1984—2005، 2005—2013.
1948–1967: محاولة إدراك حجم الكارثة
لقد استمرت العلاقة غير المباشرة مع المحيط العربي، من جملة الأمور الأخرى، عبر الصحافة الناطقة باللغة العربية التي أصدرتها أذرع دولة إسرائيل المحتلفة . سعى هذا النوع من “الصحافة الموالية للسلطة كذلك إلى قطع علاقات البقية الباقية العربية مع المحيط العربي واستحداث منظومة قيم جديدة. إلاّ أن هذه الصحافة، وربما عن غير قصد وخلافًا لأهدافها، قد عزّزت العلاقة الثقافية مع المحيط العربي على مستويين: عبر تغطية واسعة للنشاط الثقافي المتنوّع (الذي تركّز في حينه في القاهرة وبيروت)، وعبر تشغيل يهود من أصول شرقية وصلوا إلى البلاد حديثًا من بلادهم الأصلية وتمتّعوا بخبرة واسعة في المجال الصحافي (باللغة العربية) وتراث ثقافي غني. وعلى هذا النحو ساهم هؤلاء بإعادة تأهيل النشاط الصحافي باللغة العربية في البلاد وصيانة العلاقات الثقافية مع العالم العربي.
وكذلك، ساهمت صحافة المعارضة (تلك التابعة للحزب الشيوعي وتلك التي تحمل توجّهًا قوميًا) في صيانة هذه العلاقات الثقافية مع المحيط العربي، ولكن ارتكزت هذه المساهمة على أسس مغايرة تمامًا: فقد رأت الصحافة الشيوعية نفسها صحافة إسرائيلية بكل معنى الكلمة ودعت الجمهور العربي إلى الاندماج التام بحياة الدولة عبر السعي نحو تحقيق المساواة الكاملة. ولكن ذلك لم يقف عائقًا أمام الدعوة لصيانة العلاقات الثقافية مع المحيط العربي، بل بادرت إلى تغطية واسعة للمواضيع السياسية والثقافية العربية الجامعة. وبالمقابل، عارضت الصحافة التي حملت توجّهًا قوميًا، وخاصة نشرات حركة الأرض، اندماج الجمهور العربي بالدولة ودعت صراحة العودة إلى الحضن العربي.
من الجدير بالذكر أن هذه العلاقات مع المحيط العربي في هذه الحقبة كانت باتجاه واحد: بينما اهتمت الصحافة العربية في إسرائيل بصورة بالغة بالتطوّرات الجارية في العالم العربي، فقد تجاهلت الصحافة في البلاد العربية تقريبًا بالكامل واقع الجمهور العربي في إسرائيل.
1967–1983: تواصل متجدّد
ساهمت الصحف العربية الصادرة في شرق القدس ومصر ولبنان وسورية، والتي وصلت إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، في إعادة العلاقات المتبادلة بين العرب في إسرائيل وبين المحيط العربي، وخاصة بينهم وبين أخوتهم الفلسطينيّين في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ سنة 1967. ومال الجانبان إلى طمس الخط الأخضر الفاصل بين الجانبين، وقد تغاضت أذرع دولة إسرائيل، لأسبابها الخاصة، من هذه الظاهرة حتى أنها شجعتها في بعض الأحيان. وقد تجلّت عمليات طمس “الحواجز النفسية” التي استحدثها الخط الأخضر بين الفئتين السكانيتين الشقيقتين أو الالتفاف حولها على صعيد المضامين الصحافية المشتركة بين الفئتين.
1984–2005: نمو وانتعاش الصحافة التجارية وصراعها مع الصحافة الحزبية لضمان استمراريتها
طرأت ثلاثة حوادث هامة تشير إلى بداية هذه الحقبة: تحوّل الصحيفة الحزبية الأسبوعية “الاتحاد” إلى صحيفة يومية؛ وإغلاق صحيفة “الأنباء” الصادرة عن السلطة ؛ وبداية حقبة الصحف التجارية المستقلة في أعقاب صدور صحيفة “الصنارة”، الإصدار الأول من نوعه في هذا المجال. أشارت أذرع الدولة، عبر إغلاق صحيفة “الأنباء”، إلى عدم كفاءة الصحف الصادرة عنها. كذلك، فإن عددًا من التطوّرات والعوامل قد ساهم في إضعاف هذا النمط وأدّى إلى استحداث أنماط صحافية جديدة. لخّص مصطفى كبها ودان كاسبي ذلك على النحو التالي:
وصل تفضيل الصحف الموالية (لأذرع الدولة) إلى نهايته في مطلع الثمانينيات، وذلك على ما يبدو لسبب اقتصادي وآخر سياسي. لقد تركت التحوّلات الطارئة على الصحافة الإسرائيلية آثارها على الصحافة العربية في البلاد، وإن كانت آثارًا واهنة وظهرت في مراحل متأخرة. لقد كشف ظهور الصحف العبرية المحلية عن الطاقة الكامنة في النشر المحلّي، وقد دفعت بالمستثمرين العرب كذلك لاعتماد هذا المنحى. وقد لاءم النشر المحلّي بصورة كبيرة الصحافة العربية، والتي تعتبر بمستويات عدة صحافة إقليمية […]. وفي ذات الوقت، فقد طرأت تحوّلات سياسية بالغة الأهمية بين صفوف الأقلية العربية. إن ضعف مكانة السياسيّين الموالين للحكومة، والذين اعتبروا فيما سبق ممثلين عن الأقليات في قوائم صهيونية لانتخابات الكنيست وفي قوائم موالية، قد أضعف الحاجة مرة أخرى إلى صحف حزبية موالية للدولة. إضافة إلى ذلك، فإن الروح السياسية الجديدة قد دفعت باتجاه ظهور قوائم انتخابية عربية قومية مستقلة تتمتّع باحتياجات إعلامية مميّزة.[1]
كذلك، نشهد محاولات أخرى منذ مطلع الألفين تسعى إلى إعادة “الصحافة الموالية للحكومة”، مثل صحيفة “الأهالي” برعاية صحيفة “معاريف”، والصحيفة الإلكترونية ynet التابعة لصحيفة “يديعوت أحرونوت” بالعربية، إلاّ أنها لم تنجح هي الأخرى. تراجعت صحيفة “معاريف” عن شراكتها مع الإخوان دغيم في صحيفة “الأهالي”، واختارت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن تغلق في مطلع أيار 2005 الموقع الناطق باللغة العربية وحوّلته لموقع باللغة الإنجليزية.
إن ضعف تأثير الصحافة الموالية للدولة والأحزاب الصهيونية قد ترك فراغًا معينًا، ومع مرور الزمن امتلأ هذا الفراغ بمنشورات تابعة لحركات ومنظمات وأحزاب سياسية عربية أو أحزاب ناشطة بصورة رئيسية في الوسط العربي. توقّف عطا الله منصور عند هذا التحوّل وعبّر عنه على النحو التالي:
إن ظهور حركات وأحزاب مثل “أبناء البلد” (1973)، والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة (1977)، والحزب الديمقراطي العربي (1988)، قد تزامن مع عملية انتعاش الصحافة، والعكس كذلك إذ إن ظهور الصحافة قد ساعد في تطوّر التعدّدية الفكرية والتنظيمية بين السكان العرب في إسرائيل. أما على المستوى الاقتصادي، فإن جميع هذه الصحف بالتقريب مموّلة من أحزاب أو أطراف سياسية ترى بها أداة لنشر توجّهاتها.[2]
تزامنت عملية تعزيز تأثير الصحافة الحزبية هذه مع التأكيد على الهوية السياسية الأيديولوجية لهذه الحركات والأحزاب التي تصدر هذه المنشورات والصحف (التيار الشيوعي، والتيار القومي، والتيار الإسلامي). يكمن القاسم المشترك الذي يجمع هذه التيارات الثلاثة في التأكيد على الهوية الفلسطينية، ليس عبر الشعارات الأيديولوجية تحديدًا، بل عبر التأكيد على الرموز والصور مثل الألوان والصور الفوتوغرافية وغيرها.
2006—2013: الصحافة المكتوبة في ظل الثورة الرقمية
منذ ظهور الثورة الرقمية في نهاية القرن المنصرم، ظهرت تساؤلات بشأن مستقبل الصحافة المطبوعة كأداة لتشكيل الرأي العام. إن الاستخدامات التقنية السهلة والمتوافرة لرفاهية المستخدمين، والتي وفّرت الأدوات الرقمية المختلفة مثل الإنترنت والإعلام المعتمد على بثّ الأقمار الاصطناعية والهواتف الذكية، قد وضعت الصحف المطبوعة وأصحابها أمام عدة تحدّيات ليست بالبسيطة. حاول هؤلاء بالتخفيف من هذا التحوّل الجارف عبر تبنّي بعض هذه الأدوات الجديدة، مثل إنشاء مواقع إخبارية إلى جانب الصحيفة المطبوعة. وبالفعل، فقد خفّفت مثل هذه الخطوات بعض أوجه هذا التحوّل، إلا أنه لم يتغلّب على التيار الجارف المؤدّي إلى التخلّي عن عادات القراءة والاستهلاك الإعلامي التقليدي، وبخاصة بين صفوف الشباب. كذلك، نشهد ظهور محاولات في مجالي التسويق والنشر، وهي محاولات أعاقت بعض أوجه هذا التحوّل ومنحت الصحف، وخاصة تلك المحلّية والتجارية، فرصة الاستمرار بالصدور والعمل. وبالمقابل، تعاني الصحف الموالية للأحزاب السياسية من صعوبات جمّة وشكوك كبيرة قائمة بشأن قدرتها على الاستمرار بالصدور.
- بروفيسور مصطفى كبها، رئيس قسم التاريخ والفلسفة والعلوم اليهودية – الجامعة المفتوحة
[1] مصطفى كبها ودان كاسبي. “من القدس المقدّسة إلى العين: توجّهات في الصحافة العربية في إسرائيل”، فنيم (مجلة)، العدد 16 (2001)، ص 52.
[2] عطا الله منصور. “الصحافة العربية في إسرائيل”، كيشر (مجلة)، العدد 7 (1990)، ص 72.