“إنَّ السكّان العرب في دولة إسرائيل ليسوا فئة هامشية في المجتمع الإسرائيلي. إنهم جزءًا لا يتجزأ من هذه البلاد، سكّان يحملون هوية قومية وثقافية مشتركة ستشكّل دومًا مركّبًا أساسيًا في المجتمع الإسرائيلي” – جاء هذا التصريح في معرض خطاب رئيس الدولة رؤوفين ريفلين في كفر قاسم يوم 26 تشرين الأول 2014 حين شارك في مراسم إحياء ذكرى المذبحة التي اقترفت في البلدة قبل 58 سنة.
يعتبر وقوف الرئيس وزوجته برأسين مطأطئين أمام النصب التذكاري، الذي يحمل قائمة أسماء الضحايا باللغة العربية والواقع في الشارع الرئيسي لكفر قاسم، سلوكًا جريئًا في الأجواء السياسية السائدة حاليًا. إنَّ صورة وضعه إكليل الزهور بجانب النصب، ورئيس البلدية عادل بدير ومؤسّس الحركة الإسلامية نمر درويش إلى جانبه وسكرتيره العسكري العميد الدرزي حسون حسون، في جانبه الآخر، تساوي آلاف الكلمات. وكذلك، فقد تمتّع خطابه بأهمية غير مسبوقة. جاءت في معرض كلمة رئيس الدولة الطويلة أقوال صريحة لم يسبق أن نطقت بها شخصية إسرائيلية رفيعة بهذا المستوى: الاعتراف بالسكّان العرب بوصفهم أقلية قومية وبأنه لا يجب التوقّع بأن ينشدوا “النشيد القومي (الإسرائيلي) بأعين لامعة”؛ الإعلان عن أنَّ البلاد هي بيتهم ووطنهم كما هي وطن الشعب اليهودي؛ قول صارم بشأن الضرورة الحيوية لشراكة حقيقية بين الشعبين؛ ودعوة حقيقة نابعة من القلب للاعتراف واللقاء وتعلّم اللغة العربية والانكشاف والتعرّف الثقافي المتبادل. كذلك، أكّد الرئيس في يوم إحياء ذكرى ضحايا مجزرة كفر قاسم أنه “يتوجّب علينا أن نُعلّم الأجيال القادمة هذا الفصل القاسي ونستخلص منه العبر”، ويمكن لفئة قليلة من رجال السياسة اليهود على مدار العقود الستة المنصرمة أن يشاركوه هذا القول.
وللأسف الشديد، لم يثر هذا الخطاب الاهتمام اللائق في الإعلام وبين الجمهور، بل على العكس من ذلك، فقد شهدنا لا مبالاة من طرف السكّان العرب وردود فعل غاضبة من جهة معسكر اليمين وردود أفعال جمهور يهودي على المواقع الإخبارية وما شابه، ومن ضمنها صورة لريفلين يعتمر الكوفية، ممّا يذكّر بأيام التحريض السوداء قبيل مقتل إسحاق رابين. وقد قال أيضًا: “إنَّ التحدّي الأصعب والأهم الماثل أمامنا هو كيفية تعاملنا مع النظرة المتشكّكة والكراهية والعدائية السائدة في القطاعين”، وكأنه لا يخاطب الجمهور الحاضر في القاعة فقط، بل جملة الوزراء الذين يؤجّجون هذه النزعات ليل نهار. يضاف هذا الخطاب إلى سلسلة من الأقوال الصريحة الشبيهة التي ظهرت في الآونة الأخيرة منذ توليه المنصب والخطوات الرمزية التي أقدم عليها، مثل مشاركته في الفيلم القصير ضدّ العنصرية والتمييز، حيث تم تصويره هناك إلى جانب صبي عربي من يافا منبوذ اجتماعيًا بسبب اختلافه.
تصوير: مارك نويمان، مكتب الصحافة الحكومي
وبصورة تحريضية ضدّ أعضاء الليكود الذين يجتمعون تحت صورة زئيف جابوتنسكي ولكنهم ابتعدوا عن تراثه الليبرالي، اقتبس ريفلين مثاله الأعلى الذي قال قبل نحو ثمانين سنة: “اقسم بهذا باسم جميعنا وباسم أحفادنا بأننا أبدًا لن نخطو خطوات منافية لمبدأ المساواة في الحقوق وأبدًا لن نحاول طرد أي شخص من بلادنا”. وكأنَّ ما بين سطور الخطاب يصرخ ويتساءل: أين هم هؤلاء الأحفاد؟ وأرسلهم لقراءة كتابات جابوتنسكي.
وكما هو موقف أ.د أسعد غانم الذي يظهر في معرض مقابلة معه منشورة في هذا العدد، كذلك يعتقد الرئيس أنَّ الشراكة اليهودية العربية داخل إسرائيل من شأنها التأثير على الحل المرجو للصراع مع الفلسطينيّين، وليس بالضرورة عكس ذلك: “إنَّ تشكيل الشراكة بيننا هو ضرورة وجودية. تؤثّر العلاقة بين القطاعين العربي واليهودي تأثيرًا جوهريًا على مستقبلنا وعلى الاقتصاد الإسرائيلي، وكذلك كما أعتقد، على إمكانية التوصّل إلى تسوية الصراع بين إسرائيل والشعب الفلسطيني”. وإذا اضطررنا للقراءة مرة أخرى بين السطور يمكننا العثور هنا على إشارة بشأن طابع الحل الذي يدعمه الرئيس، ومن المعروف أنه ليس من داعمي شعار “دولتان لشعبين”. هل فعلاً يشير ريفلين في كفر قاسم إلى أنه كما يتعيّن علينا السعي نحو حياة تعتمد على المساواة والانسجام بين اليهود والعرب داخل الخط الأخضر، استنادًا إلى احترام الاختلاف القومي والاعتراف به، كذلك يكون الأمر بخصوص الدولة المشتركة المستقبلية التي ستقوم بين البحر والنهر؟ لم يقل الرئيس ذلك صراحة، ولكن نفترض أنه سيتشجّع في المستقبل ويختار الوقت المناسب للتعبير عن هذا الموقف المختلف حوله جهارًا.
بالطبع يمكن أن نجد في خطاب الرئيس أمورًا اعتيادية وحتى أمورًا ستغضب أشخاصًا من الطرفين، ولكن الوقت والمكان اللذان اختيرا لإسماع هذا الخطاب والنبرة الحادة التي تحدّث بها ريفلين بشأن المواطنة الإسرائيلية الجلية للعرب في إسرائيل، من دون علامات استفهام ولا شروط، حوّلت الخطاب إلى نصّ يجب العودة إليه وقراءته ودراسته مجدّدًا والاقتباس منه في كل حين.
وختامًا، يعتبر هذا الخطاب، الذي يعبّر كذلك عن الأمل، لا اليأس، حلمًا متفائلاً لا يترك مجالاً للكوابيس الليلية. خلافًا لخطابات الترهيب والوعيد والتحريض وكراهية اليهود للآخر التي اعتدنا عليها تخرج من فم رئيس الحكومة وأعضاء مهمّين في كتلته وحكومته، فقد توجّه الرئيس ريفلين، الذي يجلس أمامه طلاب مدرسة ثانوية من كفر قاسم وآخرون من هرتسليا، إلى الجيل الشاب وعبّر عن إيمانه أنه يمكنهم أن يحدثوا تغييرًا وأنهم هم أنفسهم حاملي الشعلة للنضال ضد العنف والتطرّف: “أنا مؤمن بكل جوارحي أنه إذا استبطنّا فكرة أنه لا مفرّ لنا، وأنه إذا تحمّلنا المسؤولية المشتركة بشأن مستقبلنا، فإنَّ علاقاتنا يمكن لها أن تتحوّل من بؤرة للصراع إلى مصدر للقوة؛ الإشارة إلى قدرة العرب واليهود، لقدرتنا، نحن أبناء إبراهيم وإسحق وإسماعيل أن نتعلّم كيف نعيش سوية”.