تلقت سيرورة تحويل إسرائيل إلى دولة فوقية يهودية دينية ـ قومية، كما تجسد في إقرار قانون القومية في تموز 2018، دفعة تعزيز سلطوية في انتخابات العام 2022 بصعود اليمين المتطرف بزعامة الثلاثي سموتريتش ـ بن غفير ـ روتمان إلى سدة الحكم. يدفع هذا الثلاثي نحو نظام الفوقية اليهودية ما بين البحر والنهر إلى جانب ضم مناطق من الضفة الغربية ـ وهذه توليفة من شأنها إغلاق الباب نهائياً أمام فكرة حل الدولتين الكلاسيكي.
الواقع الجغرافي والسياسي الذي نشأ في المنطقة الممتدة ما بين البحر والنهر يسرّع سيرورات يتعارض، من جهة أولى، مع حل الفصل الذي نادى به اليسار الصهيوني تحت شعار “نحن هنا وهم هناك” ويصعّب على اليمين اليهودي، من جهة أخرى، مهمة فرض السيادة الإسرائيلية على المناطق التي تم احتلالها في العام 1967. هذا الواقع المعقّد يبشر بأفق جديد لحل الصراع.
على مدى العقدين الأخيرين، أحكمت الحكومات الإسرائيلية سيطرتها على الضفة الغربية. ففي الوقت الذي ينشغل فيه العالم بأزمات دولية وإقليمية أخرى ويتخلى عن القضية الفلسطينية، قامت حكومات نتنياهو بتوسيع المشروع الاستيطاني الذي بلغ أبعاداً هائلة. وفقاً لما نشرته منظمة “سلام الآن” (تقرير 2022)، يبلغ عدد المستوطنات اليوم 132 مستوطنة وعدد البؤر الاستيطانية 147 بؤرة. أما معطيات الفلسطينيين فتشير إلى وجود 471 نقطة استيطانية يهودية في الضفة الغربية: مستوطنات، بؤر استيطانية، مزارع رعوية، مواقع سياحية إضافة إلى المجمعات الصناعية ومعسكرات الجيش.
تشير تصريحات الحكومة الجديدة، على نحو واضح، إلى أنها تعتزم توسيع الاستيطان اليهودي في المناطق أكثر فأكثر، بما في ذلك “تبييض” ما يزيد عن مائة بؤرة استيطانية وتكليف سلطة مدنية بإدارة المستوطنات ثم، بالتالي، تسريع ضم المستوطنات إلى الدولة. إضافة إلى ذلك، تسيطر إسرائيل اليهودية على جميع المعابر الحدودية، ما يجعلها الجهة الوحيدة التي تتحكّم بهوية كل من يدخل إلى المنطقة الممتدة بين البحر والنهر وكل من يغادرها. وعلاوة على ذلك، جميع (التفاصيل على) بطاقات الهوية الفلسطينية في المنطقة الواقعة بين البحر والنهر مدونة باللغة العبرية أيضاً، بما فيها بطاقات سكان قطاع غزة. مع ذلك، وفي موازاة الضم الفعلي على أرض الواقع، يزداد تعداد السكان الفلسطينيين وفي العام 2021 بيّنت دراسة أجراها “معهد دراسات الأمن القومي” (INSS) أن عدد الفلسطينيين بين البحر والنهر قد فاق في تلك السنة، وللمرة الأولى، عدد اليهود؛ أي أن حكم الأقلية آخذ في التشكل في هذه البلاد.
بين الانتماء والمُلكية
يعيش الشعبان، الفلسطيني واليهودي، في المساحة الممتدة بين البحر والنهر ويدّعي كلاهما الملكية عليها. يغني كلاهما للوطن وهما يقصدان المساحة ذاتها: بينما يغني اليهودي “نحن نحيك أيها الوطن”، يغني العربي “بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي”؛ وبينما يغني العربي “الأرض بتتكلم عربي”، يغني اليهودي “ليس لي بلاد أخرى، فقط الكلمة بالعبرية تتغلغل”. يرقص اليهودي على أنغام “خُذ عصا، خذ حقيبة وهيا معي إلى الجليل”، فيردّ عليه العربي بأغنية من عنده: “جليلنا مالك مثيل وترابك أغلى من الذهب”.
ينظر المجتمع الدولي إلى الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني باعتباره صراعاً قومياً يتمثل حله في تقسيم البلاد إلى دولتين مستقلتين وسياديتين. لكن الحل الذي يقوم على الشراكة، لا على الفصل، هو ما يناسب المعطيات الجغرافية ـ السياسية المحلية. أحد المعطيات المركزية هو التداخل الديمغرافي البارز في داخل إسرائيل نفسها: ستون بالمائة من سكان الجليل هم فلسطينيون وأكثر من ثُلث سكان النقب هم بدو فلسطينيون. ولا تقفز هذه الظاهرة عن المدن، بل يزداد التداخل بفعل اتساع الطبقة الوسطى العربية ـ الفلسطينية التي تختار الهجرة إلى مدن يهودية لتحسين جودة حياتها.
علاوة على ذلك، يميل المجتمع الفلسطيني إلى التغاضي عن الخط الأخضر وتجاهله. بالرغم من قانون المواطَنة الذي يميّز ضد الفلسطينيين الذين يؤسسون عائلات مع أبناء/ بنات شعبهم من المناطق أو من الدول العربية، إلا أن ظاهرة الزواج العابر للحدود ما زالت مستمرة، وإن بأعداد أقل. وثمة تطور آخر مثير للاهتمام هو أن فلسطينيين من مواطني إسرائيل يشترون أراضيَ ويشيّدون بيوتاً لهم في بلدات فلسطينية في الضفة الغربية، تجسيداً لارتباطهم المتواصل مع شعبهم ووطنهم. وإلى هذه كلها، ينبغي أن نضيف بالطبع المسألة الأكثر حساسية في الصراع ـ مسألة المستوطنين. فالمستوطنون اليهود يشكلون اليوم نحو أربعة عشر بالمائة من سكان الضفة الغربية وأكثر من ثُلث سكان القدس الشرقية. من الصعب رؤية حل سياسي يقفز عن هذه المسألة و/ أو ينهيها. حتى العودة المحتملة للاجئين فلسطينيين، والتي هي شرط مركزي يضعه الفلسطينيون لأيّ اتفاق سلام، سوف تعمق من حالة التداخل والاختلاط بين الشعبين، كما يبدو.
اقتصاد مشترك في الوطن؟
منذ العام 1967 نشأ وتطور “في حيّز الشيكل” اقتصاد مشترك سيكون من الصعب جداً الفصل بين مركّباته: مات آلاف الفلسطينيين الذين يعملون في إسرائيل وفي المستوطنات؛ عشرات آلاف الفلسطينيين مواطني إسرائيل الذين يزورون مناطق الضفة الغربية بصورة دائمة ويشكلون فيها قوة شرائية هامّة. هؤلاء وأولئك يقدمون مساهمة كبرة للاقتصاد الفلسطيني في المناطق. إضافة إلى ذلك، صحيح أن اتفاقيات باريس، التي تم التوقيع عليها في العام 1993 في إطار اتفاقيات أوسلو، قد عملت لصالح إسرائيل، لكنها عمقت في الوقت ذاته التبعية الاقتصادية بين الجانبين. فطبقاً لهذه الاتفاقيات، يستخدم التجار الفلسطينيون ميناء حيفا وميناء أشدود لاستيراد بضائع إلى الضفة الغربية وقطاع غزة؛ تعتمد إسرائيل والسلطة الفلسطينية نظاماً جمركياً موحداً؛ ويتم إغراق الأسواق الفلسطينية بالبضائع الإسرائيلية. هذه كلها تدل على اندماج متزايد بين كلا الاقتصادين.
البنى التحتية للمواصلات والاتصالات
الحيز الجغرافي الممتد بين البحر والنهر مربوط بشبكة مواصلات مشتركة. تم إنشاء هذه الشبكة عقب الاحتلال في العام 1967 وتطورت مع اتساع المستوطنات اليهودية في المناطق. على سبيل المثال، شارع رقم 90 الذي يربط شمال البلاد بجنوبها يمر عبر غور الأردن؛ شارع رقم 60 يبدأ من بئر السبع ويقطع الضفة الغربية من نابلس حتى الخليل؛ شارع رقم 90 يربط منطقة “غوش دان” بالمستوطنات في المناطق. وبالرغم من وجود العديد من شوارع الأبارتهايد في المناطق، وهي شوارع يُحظر على الفلسطينيين المرور فيها، إلا أن الفلسطينيين ـ سواء كانوا من سكان المناطق أو من مواطني إسرائيل ـ يستخدمون العديد من الشوارع التي يسافر فيها اليهود أيضاً.
كذلك البنى التحتية للكهرباء والهاتف هي مشتركة: مدن الضفة الغربية وقطاع غزة مربوطة بشبكة الكهرباء الإسرائيلية والعديد من الفلسطينيين يستخدمون خدمات شركة بيزك. نظام المياه في البلاد يشمل خزانات المياه الجوفية ونهر الأردن، وهي مكوّنات لا يمكن تقسيمها بحسب الحدود البرية وتشكل مصدر المياه الرئيسي للبلاد بأسرها. إضافة إلى ذلك، تخضع أنظمة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والأنظمة السبرانية للسيطرة الإسرائيلية المطلقة حتى في المناطق الفلسطينية أيضاً وتحتاج شركات الهواتف الخلوية الفلسطينية إلى استصدار تصاريح خاصة من إسرائيل كي تستطيع العمل. وباختصار، أصبحت البنى التحتية الإسرائيلية ـ الفلسطينية متداخلة ومدمجة بصورة عميقة.
إلى أين نتجه؟
يمكن القول إن الجغرافيا السياسية في الحيز الإسرائيلي ـ الفلسطيني تزداد تداخلاً واختلاطاً باستمرار ومن الصعب تفكيكها. الواقع الديمغرافي ـ الاقتصادي المشترك، الشراكة في البنى التحتية وفي الموارد الطبيعية، وفوق هذا كله ـ موقف كلا الشعبين اللذين يعتبر كل منهما هذا الحيز بأكمله وطناً له ـ هذه كلها تحتّم التخلي عن حل الفصل وتقسيم البلاد. المجتمع الدولي، الذي أخفق في الدفع نحو حل الدولتين الكلاسيكي، القيادة الفلسطينية، التي لا تزال تتشبث بهذا الحل، والقيادة الإسرائيلية، التي لا تقترح اليوم أي حل للصراع ـ ينبغي على جميع هذه الأطراف التفكير خارج الصندوق وتشجيع خطاب يتمحور حول حل آخر.
الحل السلمي الذي يحترم حقوق كلا الشعبين في الوطن يجب أن يكون، بالضرورة، حل شراكة لا فصل. مُقترَحٌ أن يقوم على قاعدة هيكل كونفدرالي ثنائي القومية يربط بين دولتين مستقلتين حدود كل منهما هي حدود حزيران 1967. يُسمح بحرية الحركة والتنقل بين الدولتين ولغرض إدارة الحيز المشترك الممتد بين البحر والنهر، تقام مؤسسات ثنائية القومية متساوية. وتكون القدس الموحدة عاصمة كلتا الدولتين ويتم إنشاء أطر ثنائية القومية تتولى إدارة المدينة المشتركة. هذا الحل لن يسبب غبناً جديداً لتصحيح غبن تاريخي ولا يقتلع سكاناً من بيوتهم بشكل قسري ويسمح، في الوقت ذاته، بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم طبقاً لقرار الأمم المتحدة رقم 194 من العام 1948، والذي لم يجر تطبيقه حتى الآن.
قد يكون الحل التعاونيّ الكونفدرالي ثابتاً ودائماً، لكنه قد يكون مرحلياً ومؤقتاً أيضاً. من شأن تطبيقه أن يهيئ لكلا الشعبين إمكانية التأقلم مع واقع الحياة المشتركة، خفض منسوب العداء والكراهية ـ ثم، بعد جيل أو اثنين، ربما سيرغبان في الاندماج والتمازج في دولة واحدة. الحيز الممتد بين البحر والنهر هو حيز مشترك وطبيعي لكلا الشعبين ومن الأجدى أن يتمكنا من تجسيد حقهما الطبيعي والمعترف به في تقرير المصير؛ وخير البِرّ عاجلُه.