الاتحاد الأوروبي هو إحدى الهيئات ذات التأثير في الحلبة الدولية. وهو قادر على لعب دور هام في عملية الانتقال من نموذج السلام الحالي لحل الصراع في إسرائيل ـ فلسطين، المبني على الفصل إلى دولتين قوميتين، إلى نموذج سلام بديل يرتكز على الشراكة والمساواة بين المجموعتين القوميتين.
الادعاء القائل بأنه يمكن للاتحاد الأوروبي أن يضطلع بدور هام ومميز في عملية السلام يستند إلى ركيزتين: الأولى، لدى أوروبا تجربة غنية في الترتيبات السلطوية والدستورية التي تقوم على المشاركة في الحكم وتقاسم السلطة بين مجموعات عِرقية ـ قومية مختلفة، وكذلك في الدفع نحو تسويات سياسية لحل صراعات عرقية. من الأمثلة على ذلك، الترتيبات في بلجيكا، سويسرا، إيرلندا الشمالية وفي البوسنة والهرسك، بل الاتحاد الأوروبي ذاته بكونه نتيجة ناجحة لعملية المصالحة التاريخية بين فرنسا وألمانيا. وكانت عملية التكامل والاندماج الأوروبية قد بدأت عقب الحرب العالمية الثانية، في العام 1950، في قطاع الفحم والصلب أولاً. كان ذلك ترتيباً اقتصادياً محدوداً نسبياً بين القيادات السياسية، بقيادة فرنسا وألمانيا، تم من خلاله إخضاع إنتاج الفحم والفولاذ في الدول الستّ التي أسست الاتحاد ـ فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، بلجيكا، هولندا ولوكسمبورغ ـ لمؤسسات فوق وطنية مشتركة. غير أن عملية المصالحة التي بدأت بالاعتماد المتبادل في إنتاج الفحم والصلب أخذت في التوسع تدريجياً لتشمل مجالات أخرى عديدة، بل انتقلت أيضاً من أعلى إلى أسفل، إلى عامة الناس. لم يكن السلام في القارة الأوروبية النازفة قائماً على الفصل، بل على العكس من ذلك، على تنمية الشراكات الاقتصادية وتعزيزها، على خلق اعتماد متبادل، على حدود مفتوحة وعلى إنشاء مؤسسات سياسية مشتركة تتجاوز الدول القومية وتتغلب عليها. يمكننا، في إسرائيل ـ فلسطين، أن نتعلم من هذه العملية وأن نستلهم منها.
الثانية، لدى الاتحاد الأوروبي علاقات اقتصادية وسياسية وثيقة مع دولة إسرائيل. العلاقات بين إسرائيل والمجموعة الاقتصادية الأوروبية ممتدة منذ بضعة عقود وهي على المستوى الأكثر تطوراً في العديد من المجالات. إضافة إلى ذلك، يقدم الاتحاد الأوروبي تبرعات سخية للسلطة الفلسطينية ومنظمات المجتمع المدني سواء في إسرائيل أو في المناطق الفلسطينية المحتلة، وخاصة للمنظمات العاملة في مجال ترويج ودفع أجندات السلام، الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
مع ذلك، في سياق الصراع القومي والسياسي المعقد الذي نتحدث عنه، ينبغي أن نتذكر أن الاتحاد الأوروبي هو عملاق اقتصادي، لكنه قزم سياسي. فهي منظمة تتكون بصورة أساسية من سوق مشتركة جلّ همّها واهتمامها هو التنظيم، تحديد الملاكات وتطوير العلاقات التجارية مع دول من خارج الكتلة. جميع المحاولات التي بُذلت خلال التسعينات لجعل الاتحاد الأوروبي لاعباً سياسياً مركزياً في الساحة الدولية يقوم بدفع وتكريس سياسة خارجية وأمنية مشتركة، باءت بالفشل إجمالاً. في قضايا السياسة الأمنية والخارجية، يتخذ مجلس وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي قراراته بالإجماع وليس بالتصويت ويحتاج كل قرار لاعتماده موافقة وتأييد جميع الحكومات الـ 27 الأعضاء به. في كل ما يخص الوضع في إسرائيل ـ فلسطين، ثمة خلافات جدية وعميقة بين الدول الأعضاء في الاتحاد. وعلى ضوء الانقسام والشلل في صفوف الاتحاد الأوروبي حيال قضية إسرائيل ـ فلسطين، فإن أي قرار رسمي يصدر عن الاتحاد بخصوصها يكون مرتكزاً على الحد الأدنى من القواسم المشتركة بين الدول الأعضاء، بل إن الاتحاد قد توقف عن اتخاذ أية قرارات جديدة في هذه القضية خلال السنوات الأخيرة. أما القرارات التي تم اتخاذها فهي تشكل تكراراً أوتوماتيكياً، بالروح والنص نفسيهما، للخط الرسمي الذي اعتمده الاتحاد: تأييد إقامة دولة فلسطينية مستقلة بجانب دولة إسرائيل في حدود حزيران 1967 ودعوة الطرفين إلى استئناف المفاوضات من أجل التوصل إلى هذا الحل. ويواصل الاتحاد الأوروبي التشبث بموقفه المبدئي المستند إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة بشأن كون خطوط الرابع من حزيران 1967 هي الحدود الدولية المعترف بها لدولة إسرائيل، لكنه لا يفعل الكثير من أجل ترجمة هذا الموقف المبدئي إلى تأثير فعلي على سياسة الضم الإسرائيلية. السياسة الأوروبية الرسمية بخصوص الصراع والسبيل إلى حله هي سياسة رمزية وتصريحية بالأساس وليس لها سوى تأثير هامشي فقط على الواقع الميداني. سياسة الممايزة (differentiation) التي يعتمدها الاتحاد، والتي تمايز بين إسرائيل السيادية في حدود 1948 وبين مناطق الضفة الغربية، هي بمثابة إنكار للواقع القائم المتمثل في الضم المُطبَّق على أرض الواقع (De facto) لأجزاء واسعة من مناطق الضفة الغربية وفي تكريس نظام أبارتهايد يهودي ما بين البحر والنهر. إنكار الواقع هذا يتيح لأوروبا التصرف وكأنه ليس هنالك احتلال والاستمرار في توسيع وتوثيق علاقاتها المتشعبة مع إسرائيل، وخاصة في إطار اتفاقية الشراكة بين الاتحاد ودولة إسرائيل، والتي تم التوقيع عليها في العام 1995. باختصار: أوروبا عالقة.
سيرورة الانتقال من أنموذج السلام المرتكز على الفصل إلى أنموذج سلام بديل، يرتكز على الشراكة والمساواة، منوطة بحصول تغيير عميق في النظرة الأوروبية إلى الصراع وفي التعامل معه. بداية هذه السيرورة هي الاعتراف بالواقع الثنائي القومية القائم فعلياً، من دون تجاهل أو إنكار. والواقع هو أن دولة إسرائيل تقوم منذ عدة عقود، من خلال سياساتها وممارساتها، بمحو الخط الأخضر. الموقف الأوروبي المبدئي بشأن عدم الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية في ما وراء حدود حزيران 1967، ورغم كونه مثبتاً في القانون الدولي وفي قرارات الأمم المتحدة، إلا أنه يصبح أقل أهمية وذا صلة باستمرار حيال الواقع المتشكل والمبني على وجود نظام واحد جوهره الفوقية اليهودية في كامل المساحة الممتدة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن. كيف تستطيع أوروبا إذاً، ورغم هذا كله، الخروج من جمودها الفكري المتشبث بأنموذج الفصل والانتقال إلى رؤية أخرى قد تعود بمساهمة كبيرة في دفع عجلة السلام الإسرائيلي ـ الفلسطيني؟ وكيف بالإمكان تحقيق ذل من دون الاعتراف بالضم الإسرائيلي؟
أولاً، في إعلان البندقية من العام 1980 اعترفت المجموعة الأوروبية رسمياً بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وأعلنت تأييدها التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية. باسم هذا المبدأ الأممي الخاص بحق تقرير المصير، تؤيد أوروبا المطلب الفلسطيني الذي تبلور خلال الثمانينات بشأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة ضمن حدود حزيران 1967. لكن التوجه الأوروبي لحل الصراعات القومية والعرقية منذ التسعينات لا يقوم بالضرورة، كما رأينا، على فصل السكان على أساس عرقي أو قومي وإقامة المزيد من الدول القومية الصغيرة والمتجانسة. في عملية السلام في إيرلندا الشمالية، في إنشاء الفيدرالية في البوسنة والهرسك وكذلك في العراق وسريلانكا، تمثل أنموذج السلام الأوروبي في تمكين الجماعات القومية المختلفة من تطبيق حقها في تقرير المصير ضمن أطر سياسية ثنائية القومية أو متعددة القوميات تشمل تسويات دستورية تقوم على تقاسم السلطة والشراكة في الحكم. لا شك أن في مقدور أوروبا المساهمة في الدفع نحو حل سياسي مماثل في إسرائيل ـ فلسطين، حل يقوم على الشراكة وعلى الاعتماد المتبادل وليس على الفصل ـ إطار فيدرالي أو كونفدرالي، على سبيل المثال.
ثانياً، التخلي عن أنموذج الفصل وتبني الموقف القائل بأن مستقبل السلام يقوم على الشراكة الإسرائيلية ـ الفلسطينية من شأنهما أن يسمحا لأوروبا بالنظر إلى الفلسطينيين مواطني إسرائيل باعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من الصراع القومي وأحد المركّبات الهامة في حلّه. مثلاً، قد تقوم المفوضية الأوروبية بالدفع نحو تحقيق المساواة والشراكة بين الإسرائيليين اليهود والفلسطينيين مواطني إسرائيل من خلال المطالبة المنهجية بدمج الفلسطينيين مواطني إسرائيل في مشاريع مشتركة. فعلياً، في أي مشروع للاتحاد الأوروبي مشترك مع جهات إسرائيلية، يتعين على أوروبا ليس فقط التأكد من أن هذه الجهات لا تعمل في مناطق ما وراء الخط الأخضر بموجب سياسة الممايزة، وإنما أيضاً المطالبة بحد أدنى من المشاركين من بين الفلسطينيين مواطني إسرائيل، الذين يشكلون خُمس عدد سكان الدولة. يمكن الدفع نحو تغيير السياسة بهذه الروح من خلال مفوضية الاتحاد الأوروبي وليس كتغيير في السياسة الخارجية والأمنية، وهو تغيير يتطلب قراراً بالإجماع. على سبيل المثال، كانت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) قد مارست في الماضي ضغوطاً على دولة إسرائيل للعمل من أجل تقليص الفجوات بيت اليهود والعرب ومن أجل دمج المجتمع الفلسطيني في إسرائيل في سوق العمل الإسرائيلية. تستطيع أوروبا التحرك بصورة مماثلة.
ختاماً، يبدو أن أوروبا ليست معنية بأن تملي على إسرائيل كيف عليها أن تتصرف بشأن المناطق التي تحتلها منذ العام 1967 وهي غير قادرة على أن تملي على الشعب الفلسطيني كيفية تحقيق حقه في تقرير المصير. غير أن أوروبا تستطيع حقاً، كما فعلت بنجاح كبير في صراعات قومية ـ عرقية أخرى، أن تقترح على القيادتين السياسيتين لكلتا الجماعتين القوميتين طرقاً بديلة للتعامل مع الواقع الثنائي القومي القائم فعلياً وأن تساعدهما في بلورة رؤية سياسية مشتركة تتلاءم مع الواقع القائم في الحيز الإسرائيلي ـ الفلسطيني وتستجيب له.