ولية ظهري، انشغلت بالبحث عن نقطة توازن لأرتكز عليها حين وقفت حافية القدمين في بقعة من الصبغة السميكة السوداء. خلفي جلس زوجي إلى حاسوبه منهمكا بكتابته، في حيّز ضيّق أبيضه سرمدي بدأت محاولتي الأولى في قفز الحبل، تلتها محاولة أخرى ثم أخرى… وأخرى. ارتطم الحبل بالجدران والسقف القريب مني كسوط يهوي على الجسد. تعالى الصوت ومعه نقر الآلة الكاتبة الموصول بمكبر الصوت. تطاير الأسود إلى كل جانب، تضرّج الحيّز به شيئا فشيئا بكل من فيه ومعه جسدي. تشكّل كلّ شيء من جديد وحمل بداخله ذاكرتي، ذاكرة فعل متلاحق متتالٍ لمحاولات القفز المستمرة… وكذلك الكتابة … ربما إلى يومنا هذا…. احتجب كلانا عن الجمهور وراء حائط فيه فتحتين صغيرتين مقابلتين لنا، أطلّ علينا من خلالها، فلم يعد قادرا على مشاهدة العرض كاملا. حين سكبت الصبغة السوداء الممزوجة بالماء على الأرض أمامي، وقف مشاهد واحد أو ربما اثنان، وبحسب الدور في الطابور تقدموا واحدا تلو الآخر لمشاهدة العرض جزئيا جراء ضيق مجال الرؤية كمن يتلصّص بالخِفية… عاد الجمهور الكرّة كي يجمع الأجزاء بمخيلته.
أردت حينها منع المشاهد من أن يحظى بعرض كامل. أردت التأكيد على أنه ليس بمقدوره أن يقرر أين يقف ومتى يذهب. أشغلتني علاقتي بالجمهور في بداية طريقي وعلاقة الجمهور بالعمل الفني والفنان، إذ أنّه الآمر الناهي….
في بداية مسيرتي الفنية بالعروض الأدائية وفنّ الجسد في سنة 2004 كان قد مضى على بدايات هذا النمط الفنيّ المعاصر ما يقارب الأربعين عاما، وقد وصل أوجه بسنوات السبعينات. لقد أتى العرض الأدائي وفنّ الجسد ثائرا، مكسِّرا لقواعد العرض المألوفة والتقليدية، مستحضرا الجسد بلحمه ودمه، مؤكِّدا على أهميّة الفكرة والصيرورة الفنيّة وليس المنتج المتداول تجاريا، وبهذا أصبح الجسد وما يمر به أمام الجمهور هو بيت القصيد، ومن خلال تجربته تُثار التساؤلات في عمق الفلسفة والجماليات والأخلاق.
منار زعبي، بين بين (لست بقارئ) 2009. أداء مؤسسة المعمل للفن المعاصر، القدس
تصوير: عيسى فريج
ضمن تكسير القواعد أصبح كل مكان ملائم للعرض الفنيّ الإدائيّ بحسب مبتغى الفنان، وهو معرّف بزمن ليس بالضرورة محدّدا مسبقا، فيمكن أن يستمر الأداء لمدة زمنية قصيرة، أو يطول إلى حدود بعيدة تقتضيها ضرورة العرض. من هنا أعود إلى عرضي الأول “In Between”بين-بين (2004) والذي بدأت حديثي عنه، فحين أردت تحويل الأبيض إلى الأسود، كان عليّ الاستمرار إلى حد وصولي لتلك النتيجة بهدف الإبقاء على آثار الأداء كعمل فنيّ يكون بمثابة وثيقة لما حصل بذلك المكان والزمان، وبهذا تحوّل كلّ ما في الحيّز لمنشأة قائمة بحدّ ذاتها أشارت إلى ماضي العمل وكشفت للمشاهد معلومات عنه عبر الأثر الماديّ وعرض فيديو آرت صاغ المكان من جديد.
خطبة المصعد – Elevator speech
بعد مدة من العمل على منشآت ضخمة ومتنوعة في البلاد وخارجها عدت إلى العروض الأدائيّة مرة أخرى وبصورة أخرى. أثناء تعليمي في جامعة حيفا، أردت التعامل مع موضوع تغييب اللغة العربية من الحيّز العام، وبهذا اخترت أن أعلم أستاذي، متحدّث اللغة العبرية في الجامعة، لغتي العربية في أثناء تواجدنا داخل مصعد شفاف الذي يشكّل شريانا رئيسيا في مضمار حياة مدرسة الفنون في الجامعة… لقد قمت بتعليمه بعض الكلمات العربية التي اخترتها بعناية بحيث كانت مشابهة من حيث المعنى واللفظ لكلمات والفاظ باللّغة العبرية، وكل ذلك قد جرى أثناء صعود وهبوط المصعد… في العمل الأدائي هذا اخترت أن تُبّثَّ أصوات كلانا خلال تجربة التعليم للكلمات في المصعد عَبْرَ مكبّرات الصوت في أرجاء المبنى، وبهذا قمت بتشكيل الواقع داخله من جديد، وذلك من خلال حضور اللغة العربيّة المغيّبة عمدا من الحيّز العام هنا (في الدولة).مصطلح ” Elevator Speech” مستمد من مجال التسويق وفيه تصاغ الفكرة من قبل شخص ما ليتمّ تسويقها سريعا داخل المصعد أثناء الصعود أو الهبوط، على أمل أن يخرج الطرفان بشبه اتفاق, الأمر الذي لم يحصل بهذا العمل إذ يستمر الصعود والهبوط إلى ما لانهاية إشارة مني إلى استمرار المأزق السياسي الخاص بنا أهل هذا البلد. وكذلك الأمر بالنسبة للنصّ التالي الذي رافق العمل:
“يقف كلانا بين أرض وسماء…
عالقيْن في المصعد الذي يتحرك إلى الأعلى…إلى الأسفل…
إلى الأعلى…إلى الأسفل…
إلى الأعلى…إلى الأسفل…
مِرارًا وتَكرارًا…
لا يمينًا ولا يسارًا…
بين بين، في لا مكان…يقف المصعد بين الطوابق…
يدخل الناس ويخرجون…
يدخلون “إلى فضائنا”…
فضائنا جميعًا…
لا؟
هل هذا الفضاء لهم؟
لنا؟”
على حافة الأبيض – On The Edge Of White
في عرضي المشترك مع الراقصة والمصمّمة شادن أبو العسل، والذي التقى فيه الرقص والأداء كلغتين ذاتي خصوصيّة تشكيليّة مختلفة على خشبة المسرح، بنيت منشأة من خيوط الصوف السوداء أثناء العرض، فيه انكشف الجمهور على ما وراء كواليس أعمالي التركيبية (المنشآت) والتي يميزها عمل سيزيفيّ متكرّر… وبهذا تمّ تسليط الضوء على صيرورة التركيب الأمر الذي عادة يدركه المتلقّي بشكل جزئي من خلال المنتج النهائيّ.
حمّى – Fever
على خشبة المسرح في حيفا وضمن الحدث الفنيّ الفلسطيني “قلنديا الدولي الثاني “, مولية ظهري، أجلس بفستان أبيض ناصع على كرسيّي، أُمعن النظر في جسم مستلقي على سرير أمامي، يرتجف, مغطى بغطاء أبيض ، تسيل الصبغة السوداء مرة أخرى من الجسد والسرير، تضرج كلّ شيء بالأسود…. بدون حراك, عاجزة أراقب ما يجري.
النصّ المرافق للعرض (حمّى):
غصت عميقًا في الذاكرة، هناك حيث الحشد الكبير، طغيان الذاكرة أغرقني، هربت وانسلخت عن جسدي، حلّقت عاليًا فوق فراشي وعدت لأجلس بجانبه وأرافقه في رحلته… يرتعش ويرتجف ولا يكفّ…يرشح…يبلّل كلّ شيء…يعرق ويغرق الزمان، يخطّ معالمه من جديد، يهذي بأنين خافت صامت، أنين حمّى في الخفاء آتٍ من بين ثنايا الفراش، وفي الظاهر تمضي الأشياء في أمرها بإيقاع مبتهج، ممزوج بضوء يطغى على صوتي وصداه، يعلو غير آبه بأمري…غير آبه بسواه…
من خلال عرض تجاربي المختلفة في الفنّ الأدائي أرى أمام عينيّ محاولتي الدائمة في تقمّص دور الفنّانة، التي هي أنا، فأخلق العمل الفنيّ كجزء لا يتجزأ من هاجسي اليوميّ في الحياة. أعود دوما إلى الجسد كوسيلة تعبير عمّا يجيش في داخلي، فيتحول جسدي من خلال العمل الفنيّ لحبل وصيد يربط ما بين الوجود والمادة كالجنين الذي ينبثق من اللا-مكان ويخرج عن دائرة الزمان… وارتبط باللغة… لغتي العربية، فهي دوما تُصاغ كنصّ أو صوت أو كرمز، بحيث تلعب، كالجسد تماما، دورا مميّزا له حضوره خلال العرض، وذلك بهدف ربط التجربة الفنيّة والحياتيّة بهويتي الإنسانية.
كانون الثاني 2016
*ترجمة من العربية أريه جوس
منار زعبي هي فنانة منشآت وفيديو آرت, مؤدية وأمينة معارض, حاصلة على اللقب الثاني في الفنون التشكيلية, تعيش وتبدع في الناصرة. تدرّس الفنون في جامعة حيفا وكلية بيت بيرل ومعاهد أخرى. تشارك منذ العام 2000 في معارض ومهرجانات عالمية وهي ناشطة في الفن في الحيز العام.