مقال نقدي حول كتاب “في التجريد الفلسطيني: زهدي قادري واللحن الهندسي للحداثة المتأخرة” للباحث الدكتور اسماعيل ناشف، حيفا، دار راية للنشر، ٢٠١٤.
محاولة لكتابة نصّ يتعامل مع العمل التشكيلي المعروض على قماش هي حتماً محاولة فاشلة تحاول تقويض الأسس التي يرتكز عليها العمل الفنيّ الذي له دلالاته وقوانينه حيث تحاول نقل اللعبة من ساحة الابداع البصري إلى اللغة المخاطبة ولغة الكلام. هذه المعادلة الصعبة هي أساس هذا العمل الابداعي الذي نحن بصدده. هنا لدينا مبدعان الاول هو الفنان التشكيلي زهدي قادري الذي له مساره الفني الخاص، حيث يجمع في وجدانه هذا الهاجس الجليلي ابن قرية جليلية هي نحف. تشبّع بجماليات بلده وضواحيها ورضع من فيافي التلال المتاخمة لمسقط راسه، تغلغلت صخور جبل كنعان بين أضلاعه، ترعرع وصنعة العائلة في جبل التراب وشقّ الجبل وزرع الحقل وحفر الخشب واقامة البناء والطوبار والسير في أزقة البلد ….. كلّها عوامل تملأ صدره الغضّ. ها هو يصادر أشواقه بعداً ليبتعد عن الوطن ليس هروباً وليس يأساً. انتقل الى الاتحاد السوفياتي ليواصل تعليمه الاكاديمي العالي في مجال الفنون في قسم الفنون التشكيليّة في جامعة كوبان ومن ثمّ في قسم الجداريات في أعرق معهد روسيّ في جامعة موخينا في سانت بطرسبورغ. ليس اختيارا عادياً بالطبع، بل هو القدر الذي اختاره الفنان لنفسه. من الفنّ الابداعيّ الخاص في وطنه الاول صقل زهدي أفكاره وتكويناته الجينية التي ولدت في ذاته لتتكامل وتترعرع هناك في المنفى الاختياري في الاكاديمية الروسية التي عرّفت للانسانية بدايات الفن التجريدي منذ بدايات القرن الماضي حيث اجتمعت فيه ثلاثة محاور رئيسية هي: الروحانية – لكاندينسكي والتجريد الطاهر لكازيمير ميليفيتش والاخوين انطوان فابزنر وناعوم غابو.
هناك كان الملتقى، وجاء شاب طموح يحمل نشوة العمل الفنيّ البسيط الذي يمارس تكوّنه ليكبر ويكبر فيجمع حصيلة سنوات من الدراسة والابداع والثقافة والتجربة ليعود الى الوطن… هذا الوطن الذي دائما هو بالانتظار والأمل… فهل عاد زهدي قادري فعلا؟ وإن عاد فماذا يحمل؟ لقد عاد ليحمل حلماً وألماً وشوقاً وابداعات لا تنتهي ليصقلها ثانية في الارث الفلسطيني المتشبّث ها هنا مع تضاريس زيتونته. لماذا عاد؟ عاد ليعمل ها هنا وقد عاد بإرث ليس بواضح المعالم… لقد عاد وهو يحمل لغة فنيّة لم تجد مكانها الطبيعي في الملتقى الفنيّ المحليّ المتقوقع ما بين أكاديميته الإسرائيلية وما بين الحلم الغربي النيويوركي المزيّف. إنّه الواقع الصعب الذي يعود اليه بعد سنوات، فهل سيجد له مكاناً ليصنع به وفيه حلمه الفنيّ؟
الدكتور اسماعيل ناشف هو الذي يقف وراء كتابة النص الذي من خلاله يعطينا تحليلاً واسعاً حول قضايا التجريد في الفن الفلسطيني من خلال تناوله لأعمال الفنان زهدي قادري. د. ناشف هو باحث أكاديمي في العلوم الاجتماعيّة وفلسفتها، ويدرّس في عدة جامعات فلسطينية وإسرائيلية وأجنبية ويتعامل مع منظور الحداثة من جوانب شتّى حيث يطرح سؤال بحثه الدائم حول تفكيك المقولات السائدة في الإدراك الحسّيّ وفي الوعي الثقافي الغربي الذي يرى بالضرورة في وضع الثقافة الحسيّة الغربيّة في الدرجة الأولى ضمن مفاهيم التطور والرقيّ الاجتماعي-الثقافي والسياسيّ ايضاً. غنيّ عن التنويه بأنّ مشروع اسماعيل الناشف الثقافيّ هو محاولة جادّة لخلق منظور جديد للثقافة ككل، أما هنا فالمنظور يركز على المشهد البصريّ الفلسطينيّ كظاهرة وجودية تستحق النطر والترقب والبحث والتمحيص والنقد.
اذا بدأنا بالتعمق في ماهية التجريد في الفنّ البصريّ فلا بدّ من الإشارة للغلاف وللعنوان الذي اختاراه المبدعان: “في التجريد الفلسطيني: زهدي قادري واللحم الهندسي للحداثة المتأخرة” – فنرى هنا موجزاً لمحصلة تفكير عميق لكل ما يتناوله الفنان التشكيليّ والباحث الفيلسوف: التجريد ما هو؟ وعلاقة الفنون السمعية من موسيقى وألحان بالفن البصري، بل والعلاقات المركبة ما بين الفنون الابداعية كافة وعناصر القوى التي تتشكّل بينها. ثمّ هناك العامل الهندسي المحسوب تقنياً، قالباً وقلباً، ودوره الرئيس في تكوينات جماليات الفن التجريدي الحديث، هذا ناهيك بعلاقة الموروث الإسلاميّ بعنصر الهندسة والمساحات المقنّنة في صنع جماليات الفنّ بشتّى انواعه كالرسم الخزفيّ والفسيفساء والزجاج والخشب والرخام الحجر والمعادن وغيرها. انّه ارتباط وثيق يرمز اليه العنوان ليتبلور فكرة في مضامين الكتاب، سواء في اللوحات التشكيلية المتضمنة في الكتاب، أم في النص الكتابيّ.
وفي النهاية، يأتي مصطلح الحداثة كمحور اساسي في النقد الفنيّ والذي يتناوله الباحث والفنان بخبرة تكاد تكون منعطفاً نحو الولوج إلى خلق تيار فكري جديد في النقد، وخاصة إذا ما طالعنا بإسهاب محصلة كتابات اسماعيل ناشف في الخمس سنوات الأخيرة من نقد وادب وعمل ابداعي ومشاركة في إقامة معارض فنيّة وحتى في نبذه لمشاريع فنيّة أو أكاديمية تأتي على صعيد نطرته الناقدة لكل ما هو مشروع ثقافيّ فلسطينيّ اساساً وعربيّ في نهاية الأمر وإنسانيّ لا يقبل به الباحث من منظور نقده أو رفضه لمشروع تمويه الإنسانية لصنع قوقعة استنساخ وتلقّي لكل ما هو غربيّ أبيض حاكم مستعبد متفاخر دوما بإنسانيته العليا. وتأتي كلمة “المتأخرة” لتضع المشروع في مكانها وزمانها في صنع المقولة الفنيّة الخاصة!
المقارنة التي يبدأ بها وينتهي بها اسماعيل ناشف في عرض وتحليل الفن التشكيليّ الذي يشغل هاجس زهدي قادري هي ما بينه وبين الفنانة صوفي حلبي.
ولكن قائمة الفنانين الذين تناولوا التيار التجريدي في الفن الفلسطيني هي قائمة غنيّة بالأسماء التي ترد في الكتاب فها نحن نرى جبرا ابراهيم جبرا، بول غراغوسيان، سرّي خوري، سامية حلبي، كمال بلاطة ابراهيم نوباني وغيرهم الكثير. لا شكّ أنّ اختيار اسماعيل للفنانة صوفي حلبي في عرض تحليله لعمليات تأسيس قاعدة المشروع التجريدي في الفنّ التشكيلي الفلسطيني هو بحدّ ذاته تحليل فذّ ناهيك عن الجرأة في طرح الفكرة بأنّ التجريد يأتي من منطلق تحليل مفهوم المادة. هذه المادة التي تتشكّل امام اعيننا بشكل منتوج بضائعي له قوانين التنقل، وكسلعة يتحكّم بها مفهوم البيع والشراء، وبذلك تخرج فكرة العمل الفنيّ خارج نطاق تعريفها الشائع في كونها مورّدا لجمالية فكرية محصورة في منظور التلقّي: “لمِا ولِمَن”، بل تنتقل الفكرة إلى توليد جماليات اخرى تتعامل عن تعريف الرؤية وآلياتها بـ”كيف أرى”.
التعامل مع الفن التشكيلي الفلسطيني يحمل حسب هذا الكتاب ثلاث محاور أساسية هي مادّة التاريخ وارتباطه بالإرث الإسلاميّ، وهناك محور اليومي الممل والمباشر مع المستعمر، وهناك ايضا مادة الجسد التي تلعب دوراً رئيسا في تشكّل الموروث البصري الفلسطيني خاصة.
العلاقة التي يجدها اسماعيل في تشكيلات الفنان زهدي مقارنة بأعمال الفنانة صوفي حلبي ترتبط بالتاريخ الثقافي والتجربة الحسيّة الجمالية لكليهما، هذا بالإضافة للعامل المشترط في تكوين تيار خاص في الفنّ الفلسطيني والذي يرتبط ارتباطا مباشراً بالعلاقة التاريخية ما بين فلسطين وروسيا. فالمشروع الفنيّ البصري في فلسطين كان قد ابتدأ حديثاً مع المدارس الفنيّة الروسية والتي استقطبت العديد من التيارات الحسيّة الروسية والتي لعبت ولا تزال ذات تأثير كبير على الفن الفلسطيني بشكل عام. والمادة هنا في كلا الحالتين لدى زهدي ولدى صوفي هو التعامل مع الألوان. ولكن الالوان لديهما هي من منظور حسيّ يحمل دلالاته المتعددة الجوانب، سواء في الغربة، أم في الوطن.
بالإضافة للتعامل مع المادة من منظور خاص، نرى التعامل مع الطبيعة كبدايات وبعدها بالضرورة انتقال إلى التجريد والعودة إلى بدايات الانطلاق في التعبير عن مفاهيم وحقائق وبديهيات بصرية يستطيع العقل ان يترجمها الى فكر ولغة هي من صنع العقل. ومن ثمّ انتقال إلى النقطة والسطر والحرف كجماليات لا تترجم من منزور حسيّ واع ومدرك لفكرة لها تكوينات معينة يدركها المتلقّي من خلال اعمال فكره في ترجمة العمل إلى منظور حسيّ جمالي مفهوم ومدرك!
هذا المنظور الحسي يحمل صوراً متقابلة لا بدّ من التنويه اليها في البدايات.
الشجرة، حقل الزيتون، جبل كنعان، حصار، العائلة المخلّص، العائلة، وغيرها… كلّها عبارة عن منظورات حسيًة تركت بصمتها في وجدان المبدع الفنان وتراكمت، أو بالأحرى انبثقت من وعيه المرهف حتى تحولت على أعمال إبداعية باللون والشكل على القماش المشدود كذاكرة لا تريد ان تُمحى… وهناك أيضاً التعامل مع الهندسية والمساحات والاحجام بطابعها المقنن لتحتوي على ما اختزله الفنّان من تجربته الحياتية في فترة الدراسة وما بعدها.
ونجد الفنان يبتدع تمزيق اللوحة وتجريد اللون من اللون ليحلّ مكانه الجرح!
لا أدري أهو اللون أم هو الألم الذي ينقله زهدي ليمارس به كينونته الجسديّة؟
لا يلتقي الفنان صدفة بالباحث والاديب الكاتب والناقد اسماعيل الناشف. إنّه المكان الذي يُدعى فلسطين هو الذي يجمعهما لمحاولة خلق عمل إبداعي جديد. فعلا لا يمكننا التعامل مع هذا المشروع الكتابي المصور الا كعمل إبداعي ينقل لنا تجربة الفنّان التشكيليّ الذي يعود على الوطن بعد سنوات دراسة وتجربة على الطريقة الروسيّة، وتمازج هذه المسيرة الفنيّة مع البحث والتحليل من قِبَل باحث يتناول الإبداع البصريّ كإثباتات وجوديّة في الحيّز الفلسطينيّ العام الذي يتشكّل من الألوان والكتابة النقدية في آن واحد.
ترجمة من العربية أريه جوس
د حسني الخطيب شحادة هو مؤرخ ، شاعر وباحث في الفن الاسلامي، وهو رئيس دائرة الفنون في كلية ليفينسكي للتربية والتعليم، ومحاضر في مؤسسات أكاديمية مختلفة في البلاد. باحث في الفن الفلسطيني والفن المعاصر في مصر، كذلك في الأدب العربي المعاصر، وعلى وجه الخصوص الأدب والشعر النسائي. متخصص في دارسة التاريخ، العلوم والفن الإسلامي. نشر كتابا باللغة الإنجليزية في موضوع الحيوانات والطب البيطري في العصر المملوكي، كما صدر ت له المجموعة الشعربة شرقي المناداة- عن دار راية للنشر، حيفا.