حدّثينا عن حياتك الفنّيّة، وعن الدرب الذي سرت فيه، وهُويّتك الفنّيّة وعن محطّات حياتك كفنّانة.
لا أفصل بين الفنّ وحياتي الشخصيّة، فالاثنان واحد، لذا فالأمر مركّب للغاية. أحاول في عملي الانطلاق من الشخصيّ، من سيرتي الذاتيّة، نحو أمر كالشعور أو الحسّ الأساسيّ الذي أعتقد أنّ ثمّة علاقة تربطه بالفنّ. الأساس هو العودة إلى شعور جذريّ وعميق، أن أحسّ، عودة للطفولة. مشواري الفنّيّ عمره خمسة عشر عامًا! صحيح أنّه قد بدأ قبل ذلك بكثير، لكنّني لم أعرف عندها بالضبط ما هو الفنّ. الفنّ كان قائمًا في داخلي منذ أمد بعيد، لكنّني لم أستطع منحه التعريفات اللازمة. حتّى اليوم أجد صعوبة في إضفاء التعريفات. عندما يدور الحديث عن الفنّ الحديث أو عن فنّ ما بعد الحداثة، أجد صعوبة في أن أطلق على الفنّ الذي أنتجُه تعريفات واضحة. أجد صعوبة في تعريف المبدع أو الشخص الخلاّق. أعتقد أنّ الحديث يدور عن نوع من الشخصيّة التي تُبنى كالفسيفساء، فسيفساء تُبنى بأسلوب بناء شخصيّ، وتشمل بطبيعة الحال العائلة. أشعر أنّ ثمّة فضلًا كبيرًا للعائلة على شخصيّة أنيسة أشقر! ومتى أكتشف كلّ هذه الأمور؟ عندما أزور العائلة في نهاية كلّ أسبوع. عندما أكون هناك، أقوم بفحص هذا الأمر. عندما تخرج من الدائرة، ومن هذا الأمر الذي يسمّى عائلة، تبدأ بعمليّة فحص مجدّدة لهُويّتك مقابل العائلة. أسكن في تل أبيب منذ عدّة سنوات. كان لي هدف معيّن من خلال هذا الانتقال من عكّا إلى تل أبيب، وهو أن أتطوّر من الناحية الفنّيّة. أسكن في تل أبيب بسبب “مهمّة” أخذتها على عاتقي في الحياة. للأسف الشديد، الكثيرون من حولي لا يفهمون هذا التعقيد. لِمَ هذا التنقّل طَوال الوقت على محور عكّا وتل أبيب؟ ما هذا الاختلاط الذي تمارسينه؟ تريدين أن تكوني جزءًا من…؟ وأنا أجيبهم: لا، ليس دقيقًا. أنا لست جزءًا مِن، ولن أكون أبدًا جزءًا من…! كلّ التعريفات المقولبة التي يحاولون خلعَها عليّ ليست صحيحة.
أومن بالطريق الفنّيّة التي أكون وأسير فيها. حتّى لو كنتُ في حالة انطواء بهذا الشكل أو ذاك، فالمصدر واحد ووحيد: الفن. هذا الانطواء مردّه الدائم هو أنّني أبحث في العلاقات من جديد، أبحث مجدّدًا عن معنى العلاقة ومغزاها. أنا منشغلة بذلك على الدوام، في البحث. أعمل على عدد من المشاريع بالتزامن. حتّى عندما أجلس معك هنا الآن، على سبيل المثال، أقوم بتطوير عدد من الأفكار حول عدد من الأعمال التي تشغل بالي طَوال الوقت. في الثقافة التي ترعرعت فيها، ثمّة حظر على لغة الجسد، وعلى استخدام الجسد لتمرير الرسائل، نحو التعبير عن المشاعر والأحاسيس، ويمتنع الناس في الغالب عن التعبير عن شعورهم وأحاسيسهم على نحوٍ علنيّ أو صارخ، وبالتأكيد ليس بواسطة الجسد، الذي تجب المحافظة عليه وعلى تواضعه. حتّى عالميًّا ودوليًّا تنبع لغة الجسد من الإهمال، إهمال الجسد ومكانته. هذا هو السبب الذي دفعني إلى استخدام جسدي في أعمالي الأدائيّة على نحو مدرَك، وذلك أنّني لا أستطيع التعبير عن أحاسيسي وأفكاري حول ما يحصل ههنا الآن إلّا من خلال جسدي، ومن خلاله فقط.
متى تَبيّن لك أنّك فنّانة؟
بداية مشواري الفنّيّ كانت في سنّ التاسعة. تعلّمت فنّ الخطّ العربيّ. إنّه لأمر غريب، وربّما ليس غريبًا، لكن حتى عندما كنت صغيرة رأيت الأمور من منظار نِسْوي. سألت نفسي: لماذا الرجال فقط يدرسون فنّ الخطّ؟ كلّ الخطّاطين كانوا من الرجال فقط. أتذكّرهم جميعًا. في المرحلة الابتدائيّة كان هناك نظير شمالي ومحمّد صيام، وكان على المعلّمين في تلك الفترة تعلُّم فنّ الخطّ، وقد شاركت كطفلة في دورة كهذه. هذا أحد الفنون التقليديّة المهمّة، لكنّه أُخرِجَ مع الوقت من منهاج التدريس. طارق شريف من الناصرة -وهو آخر الخطّاطين- درّسني من الصفّ العاشر حتّى الصفّ الثاني عشر، وهو مَن ألّف كرّاس تعليم الخطّ العربيّ الذي استخدمناه في المدرسة. في كلّ سنواتي في المدرسة لم أتعرّف على أيّ امرأة خطّاطة. شعرت أنّني أعاني من نقص معيّن. كنت أفكّر بذلك طَوال الوقت. في أحد أعمالي التنصيبيّة، وعندما أردت الكتابة على جسدي، بحثت عن امرأة كي تكتب على ظهري. بحثت عن امرأة لا عن رجل. أشعر بالراحة أكثر مع امرأة. لكنّني لم أجد ضالّتي. الكلّ من حولي رجال، ورجال تقليديّون، وحتّى لو طلبت منهم هذا الأمر، لا أعلم ماذا سيكونه رد فعلهم أصلًا. كلّ من علّمني كان متديّنًا. من الناحية الدينيّة، لا أعرف كيف كانوا سيردّون لو طلبت منهم أن يكتبوا حروفًا على جسدي.
بالفعل، فنّ الخطّ العربيّ يرتبط ارتباطًا عضويًا بالدين وبنسخ القرآن. أشهر الخطّاطين في التاريخ الإسلاميّ قاموا بنسخ القرآن.
أجل، صحيح. بدأ ذلك من خطّ “النسخ”، نسخ القرآن. هذا سؤال جيّد: لماذا ليس هنالك خطّاطات نساء؟ هل يتعلّق الأمر بالمعتقَد الدينيّ؟ لا أعرف. لقد تعلّمت الفنّ وتاريخ الفنّ وحصلت على شهادة البجروت في الموضوع، وتعلّمت التصميم والغرافيك وكلّ المواضيع ذات الصلة، ودرست حتّى فنّ الخطّ التوراتيّ على يد معلّمة يهوديّة متديّنة، وتعلّمت فنّ الخطّ اللاتينيّ أيضًا في مدرسة مار إلياس التابعة للكنيسة المسيحيّة في قرية عبلّين. كان هناك معلّمون متطوّعون من أرجاء العالم وأحدهم كان راهبًا، وتعلّمت هذا الفنّ على يده. على هذا النحو تعلّمت فنّ الخطاطة في اللّغات الثلاث: العربيّة والعبريّة والإنجليزيّة.
وكيف بدأت في مسألة كتابة الخطّ على الوجه؟
البداية كانت نوعًا من التمرّد. لم أسلك الطريق التقليديّة. حتّى الصفّ الثاني عشر، كتبت بالطريقة التقليديّة، بالكتابة العاديّة. بدأت بالكتابة على الوجه عندما درست الفنّ في معهد بيت بيرل. في البداية، لم أعتمد على كتابتي الشخصيّة، كتابة أنيسة، للأمور التي أشعر بها في داخلي بل من خلال التماثل مع كتابات محمود درويش، الشاعر الفلسطينيّ الشهير، ومحمّد الماغوط الكاتب والمسرحيّ السوريّ. فحتى عندها كانت خياراتي رجاليّة. رجال كتبتُ كلماتهم على وجهي.
وجهي هو مسطّح عملي الفنّيّ. العمل والرسم إلى جوار العينين هما بالنسبة لي نوع من الدورة الكاملة -360 درجة. فكرة الكمال تتكاتب مع رمز العين لإله الشمس لدى الفراعنة القدماء ( الرب حورس). اخترت الكتابة حول العين لأننّي أُولي أهمّيّة لدلالة لغة العيون. الفكرة الكامنة من وراء هذه الأعمال هي أن نتمكّن من إرجاع لغة العيون. هذه هي العلاقة بين الناس التي تتولّد من خلال النظر. أمر عميق، لكن العين هي الأصل. الشعور يتولّد عبر العينين، هذا ما أومن به.
ما هي مصادر الإلهام لديك؟
أنا ممّن يحبّون الأساطير. لقد بنيت لنفسي عالمًا يخصّني من الأساطير لأنّي أستطيع أن أقصّ وأن أتحدّث من خلالها حول كلّ ما هو كائن اليوم. فكلّ شيء يعود على نفسه، والناس وحدهم يتبدّلون، لكن الطبيعة والسلوكيّات أمران قائمان منذ الأزل، وأنا أحبّ الأساطير؛ وأَحَبُّها لديّ هي الأساطير اليونانيّة وأساطير مصر القديمة- مصر الفرعونيّة. من ذلك -على سبيل المثال- قصّة الإله المصريّ حورس حيث العلاقة بين الأخ وأخيه تصل حدّ الكمال تقريبًا. كلّ هذه الأمور كانت قائمة حتّى في ذلك الحين. كلّ شيء قائم وموجود. ما المغزى إذًا؟ أحبّ تحليل المخطوطات، وفهم المقروء. هناك يقع عالمي المتميّز والاستثنائيّ. ما هو التحليل؟ أشعر بنفسي أنّني أقفز من موضوعٍ إلى آخر ومن مكان إلى مكان، وحتّى خلال الحديث. أعود دائمًا إلى الطفولة. الطفولة في غاية الأهمّيّة بالنسبة لي. وعلى الرغم من أنّ نظرتي اليوم هي نظرة امرأة بالغة وواعية، لكن الشعور الذي يعتريني طفوليٌّ في جوهره. هذا أمر طيّب وجميل، وأظنّ أنّه يجعل حياتي أفضل، ويساعدني على التقدّم كفنّانة وكإنسانة.
اخترت العيش في تل أبيب لهدف ما. توجّهت للعمل هناك لأنّني أؤدّي رسالة معيّنة، وهي الفنّ. أعرف كلّ القصص التي تحكى حول تل أبيب، وكيف ينظرون في مجتمعنا لمن تنتقل للسكن في تل أبيب. أريد التعرّف على أشخاص مختلفين، والالتقاء مع ثقافات أخرى. المدينة هي ملاذ أيضًا! أنا كذلك جئت من مدينة، مدينة صغيرة وكأنّها قرية، وربّما هي غائرة في القدم، المدينة الثانية الأقدم في العالم- عكّا. لكن كلّ شيء فيها يصبح صغيرًا. حتّى المدينة الكبيرة صغيرة في نظري، ويتبيّن لك هذا الأمر عندما تتعرّف عليها عن كثب. يستغرقك بعض الوقت كي تتأقلم. بالنسبة لي، كلّ مكان أعمل فيه هو بيتي.
حتّى لو لم أشعر بالراحة أحاول الشعور بالراحة، أرتّب الأمور حولي كي أشعر بالراحة، كي تكون لي حياة طيّبة. في تل أبيب -على سبيل المثال- اخترت أصحابي بناء على نظرة أيديولوجيّة وبمحض إرادتي. خياراتي هي التي تؤسّس حياتي كفنّانة، وتقوّيني كمُبدعة مستقلّة.
سؤال أخير: أنيسة أشقر، الفنّانة، ما الذي يحرّك فيك الإبداع؟
الرغبة في الحياة!
*ترجم المقال عن العبرية جلال حسن
د. حسني الخطيب شحادة، مؤرخ، شاعر وباحث، ورئيس قسم الفنون في كلية ليفينسكي، ومحاضر في اكاديميات عدة في البلاد. يبحث في الفن الفلسطيني والفن المعاصر في مصر، وفي الإبداع الأدبي العربي المعاصر، وخاصة أدب النساء وشعر النساء. وهو متخصص في دراسات التاريخ، العلوم والفن الإسلامي، وقد نشر كتابا باللغة الانجليزية في موضوع الحيوانات والطب البيطري في العصر المملوكي. كما صدر له عن دار راية للنشر ديوان شعر بعنوان شرقي المناداة.
الفنانة أنيسة أشقر هي من مواليد عكا؛ درست الفنون في كلية الجليل الغربي وفي الـ”الكمنيا” في بيت بيرل؛ فنانة متعددة المجالات والاهتمامات الفنية؛ رسامة، فنانة أدائية وفنانة فيديو ونماذج منحوتة؛ تسكن وتعمل في تل أبيب.