ثمّة أبحاث كثيرة كُتِبت حول التداخل اللغويّ[1] الواسع للّغة العبريّة في اللغة العربيّة المحكيّة في إسرائيل. هذه الأبحاث تؤكّد أنّ هذا التداخل لا ينبع فقط من كون اللغة العبريّة هي لغة الأغلبيّة، بل كذلك نتيجة لكونها اللغة المستخدَمة في عمليّة تحديث وعَصْرَنة المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل. أضف إلى ذلك أنّ معرفة اللغة العبريّة تشكّل، منذ قيام إسرائيل، وسيلة مهمّة في سبيل تحقيق مستوى اقتصاديّ وتربويّ وثقافيّ مرموق في المجتمع الإسرائيليّ.[2]
على الرغم من ذلك، تتعالى على الدوام أصوات في المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل تحذّر من اتّساع رقعة ظاهرة التداخل اللغويّ العبريّ، وتنادي بالمحافظة على نقاوة اللغة العربيّة. فاللغة -بالنسبة لهؤلاء- ليست مجرّد وسيلة للتواصل بين الناس، بل هي مكوِّن مهمّ من مكوِّنات الهُويّة القوميّة.[3] هذه الأصوات استمدت قوتها من التقاطب السياسيّ والاجتماعيّ الناتج عن الصراع العربيّ الإسرائيليّ، وما صاحبه من إحساس بالغبن على الصعيد المدنيّ لدى المواطنين الفلسطينيّين في إسرائيل.
لهذا لا بدّ أن نتساءل: هل هذا التداخل للّغة العبريّة في اللغة العربيّة المحكيّة يَخلق حتمًا تداخلًا موازيًا للّغة العبريّة في اللغة العربيّة المكتوبة؟ وهل هذا التداخل يظهر بنفس الوتيرة في جميع النصوص المكتوبة باللغة العربيّة، أم في أنواع معيّنة من النصوص؟
لا شكّ في أنّ الاختلاف بين النصوص قد يؤدّي إلى فروق في وتيرة التداخل، وسعته، وتنوّع أشكاله، وخصائصه، ومستوياته. ونكاد نجزم أنّه ثمّة احتمال كبير للتداخل اللغويّ وللتنوّع في مستوياته في النصوص المترجَمة مباشرة عن اللغة العبريّة. كذلك ثمّة احتمال كبير للتداخل اللغويّ العبريّ في النصوص التي ترتكز على ترجمات جزئيّة، أو تلك التي تتأثّر تأثّرًا مباشرًا أو غير مباشر بالخطاب العبريّ، كالنصوص الصحفيّة التي تتناول أحداث الساعة في إسرائيل.
وما هي حال النصوص الأدبيّة؟ لقد شدّد النقّاد والباحثون الفلسطينيّون على أهمّيّة اللغة، وعلى دورها في الأدب الفلسطينيّ في إسرائيل، وادّعى البعض أنّها ليست مجرّد أداة تعبير في الرواية الفلسطينية المحلّيّة فحسب، بل هي تشكّل غاية في حدّ ذاتها، كشكل من أشكال المقاومة.[4] لا عجب، إذًا، في أنّ ظاهرة التداخلات اللغويّة العبريّة في هذا الأدب لم تحظَ بالاهتمام الكافي، ولعلّ مردّ ذلك يعود إلى اعتقاد هؤلاء أنّ هذه الظاهرة هامشيّة، أو ربّما لاعتقادهم أنّ الانشغال بها قد يُفسَّر على أنّه ضربٌ من التشكيك في مكانة اللغة العربيّة وأهمّيّتها بوصفها وسيلة من وسائل التعبير عن الهُويّة الفلسطينيّة.
على الرغم من ذلك، وفي خضمّ النقاش حول بعض الأعمال الأدبيّة، نعثر على موقفين متناقضين حيال هذه الظاهرة؛ إذ يميل بعض النقاد إلى التقليل من قيمة هذه الظاهرة، وذلك من خلال ربطها بظواهر فنّيّة وأسلوبيّة متنوّعة، بينما يطرح آخرون موقفًا متحفّظًا منها، ويقفون عند إسقاطاتها ومخاطرها التي لا تقتصر على الأدب الفلسطينيّ المحلّيّ بل تطال المجتمع الفلسطيني بعامّة.[5]
اتّخذ التداخل اللغويّ العبريّ في الأدب الفلسطينيّ أشكالًا مختلفة، ومرّ بتقلّبات عديدة عبْر السنين، تزامنت مع التغييرات التي طرأت على المستويات اللغويّة والسياسيّة والاجتماعيّة في المجتمع الفلسطينيّ. في اعتقادي، يمكن التمييز بين ثلاث مراحل تجلّت فيها أشكال مختلفة من التداخلات اللغويّة:
أ. في الفترة بين 1948-1967: معظم الأدباء الفلسطينيّين كانوا ذوي دراية محدودة باللغة العبريّة في هذه الفترة، وامتنع هؤلاء في الغالب عن إقحام كلمات عبريّة في أعمالهم الأدبيّة، وسعوا إلى الحفاظ على نقاوة وطهارة اللغة العربيّة، وأدركوا في الوقت ذاته أنّ جمهور القرّاء لا يتقن العبريّة، لذا دأب بعضهم عل إظهار عدم المام شخصيّاتهم باللّغة العبريّة. حتّى الشخصيّات اليهوديّة التي ظهرت في هذه الأعمال “تحدّثت” بالعربيّة. من هنا نجد أنّ التداخل اللغويّ العبريّ في الأعمال الأدبيّة التي صدرت في تلك الفترة كان شبه معدوم، وتجسّد في استخدام عابر لبعض الكلمات العبريّة هنا وهناك.
ب. بين العام 1967 ومنتصف ثمانينيّات القرن العشرين: في هذه الفترة زاد اطّلاع المفكّرين الفلسطينيّين على اللغة العبريّة، وفي الوقت ذاته تفاقمت مخاوفهم من دَوْر اللغة العبريّة في الخطاب الإيديولوجيّ الصهيونيّ الإسرائيليّ الذي يحاول القضاء تمامًا على الرواية التاريخيّة الفلسطينيّة، وعليه فقد حاولوا تحدّي العبريّة بوصفها لغة الأغلبيّة من خلال التشديد على ثراء اللغة العربيّة وجمالها ومرونتها، وكذلك من خلال استخدام ساخر وتهكّميّ لكلمات ومصطلحات عبريّة تُمثّلُ على نحو واضح الخطابَ الصهيونيّ الإسرائيليّ. إحدى القضايا التي قضّت مضاجع الأدباء الفلسطينيّين هي استبدال أسماء المواقع العربيّة بأسماء عبريّة، واعتبروا أنّ الأسماء العبريّة التوراتيّة أو الجديدة التي حلّت محلّ الأسماء العربيّة هي جزء من مصادرة هُويّة المكان، ونفي الفلسطينيّ وتغريبه عن وطنه، وهو الأمر الذي لا يقلّ خطورة عن تهجير الفلسطينيّين من وطنهم، وعن تغيير التركيبة السكّانيّة للبلاد. [6]
ج. منذ منتصف ثمانينيّات القرن العشرين: في هذه الفترة عزّز المواطنون العرب المامهم باللغة العبريّة، من خلال التعليم الرسميّ، ومن خلال الاحتكاك المتواصل مع المجتمع اليهوديّ في جميع المَناحي الحياتيّة. لذا، فقد اتّسعت اتّساعًا بالغًا ظاهرة التداخل اللغويّ العبريّ في اللغة العربيّة المحكيّة، وحتّى في اللغة العربيّة الفصحى. التداخل في مستوى المفردات شهد تحوّلًا بالغًا، ولم يعد التداخل يقتصر على استخدام مفردات ذات صلة بخصوصيّات المجتمع الإسرائيليّ، بل أصبح يشمل المفردات العبريّة التي تخلو من الخصوصيّة، ويمكن العثور بسهولة على مقابِلاتها العربيّة. وبات من الواضح أنّ هذا التداخل أضحى أكثر عفويّة وأقلّ تهكّمًا، نظرًا لاتّساع رقعة التداخل اللغويّ العبريّ في اللغة العربيّة المحكيّة، وكذلك بسبب اقتراب بعض المثقّفين إلى حالة الثنائيّة اللغويّة في واقعهم اللغويّ اليوميّ.
ختامًا، يمكن القول إنّ ظاهرة التداخل اللغويّ العبريّ لا تقتصر على الأدب الفلسطينيّ في إسرائيل، وثمّة بوادر لظهوره في الأعمال الأدبيّة لكتّاب فلسطينيّين في الشتات وفي الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. ولعلنا لسنا نبالغ إذا قلنا إنّ هذه الظاهرة أصبحت من العلامات الفارقة للأدب الفلسطينيّ عامّة.
- ترتكز هذه المقالة القصيرة على مقالة نُشرت باللغة العربيّة في مجلّة مجمع اللغة العربيّة “المجلّة”، (كيّال 2010).
- ترجم المقال من العبرية: جلال حسن
مصادر
أبو بكر، وليد، 2003. تجليات الواقع في الفن القصصي: قراءات نقدية، رام الله: مركز أوغاريت الثقافي.
خمايسي، راسم محيي الدين، 2013. “أسماء المواقع في بلادنا بين الماضي والحاضر”، المجلة (مجمع اللغة العربية في حيفا)، 4، ص 35-63.
الديك، نادي ساري، 2001. علامات متجددة في الرواية الفلسطينية: دراسة تحليلية نقدية، الجزء الأول، عكا: مؤسسة الأسوار.
كيال، محمود، 2010. “التداخل اللغوي العبري في الأدب الفلسطيني في الأدب الفلسطيني المحلي”، المجلة (مجمع اللغة العربية، حيفا)، ع 1، ص 167-186.
الناشف، تيسير، 1989. “لغتنا العربية المحكية واستخدام عبارات عبرية فيها”، المواكب، ج 6 ع 9-10، ص 42-45.
Abdeen, Wael Abed Lafi, 2002. “Sociolinguistic Aspects of Variation and Change in the Language of the Village of Silwan”, Ph.D. dissertation, Bar Ilan University.
Amara, Muhammad Hasan, 1999. Politics and Sociolinguistic Reflexes: Palestinian Border Villages, Amsterdam and Philadelphia: John Benjamins.
Koplewitz, Immanuel, 1990. “The Use and Integration of Hebrew Lexemes in Israeli Spoken Arabic,” in Durk Gorter, Jarich F. Hoekstra, Lammert G. Jansma, & Jehannes Ytsma (eds.), Fourth International Conference on Minority Languages, Clevedon, UK: Multilingual Matters, vol. 2, pp. 181–195.
Talmon, Rafael, 2000. “Arabic as a Minority Language in Israel,” in Jonathan Owens (ed.), Arabic as a Minority Language, Berlin and New York: Mouton de Gruyter, pp. 199–220.
Weinreich, Uriel, 1953. Languages in Contact: Findings and Problems New York (S.N).
[1] التداخل اللغويّ (linguistic interference) هو عبارة عن تطبيق نظام لغويّ للغةٍ ما أثناء الكتابة أو المحادثة بلغة ثانية، ويعرّفه أوريئيل فاينريخ بأنّه “انحراف عن قواعد إحدى اللغتين اللتين يتحدّث بهما ثنائيّو اللغة نتيجة للاتّصال الحاصل بين اللغتين. (Weinreich, 1953, p. 1) .
[2] يمكن الاطّلاع -على سبيل المثال- على الأبحاث التالية: .Koplewitz 1990; Amara 1999; Talmon 2000; Abdeen 2002
[3] راجِعوا -على سبيل المثال- أقوال تيسير الناشف الذي يعبّر عن قلقه من تزايد ظاهرة إقحام كلمات عبريّة في اللغة العربيّة المحكيّة، وما يرافق ذلك من خطر على الهُويّة القوميّة (الناشف، 1989).
[4] أبو بكر، 2003، ص 52.
[5] راجعوا -على سبيل المثال- تحفّظ الناقد ساري الديك من هذه الظاهرة، حيث رأى أنّها تخدم الثقافة الإسرائيليّة المتعالية. هذه الثقافة لا تتعامل -بحسب رأيه- مع العرب باستخفاف فحسب، بل تحاول كذلك القضاء على القاعدة الثقافيّة والأخلاقيّة للمجتمع العربيّ (الديك، 2001، ص 49).
[6] للاطّلاع على نقاش واسع حول الموضوع، راجِعوا -على سبيل المثال- مقالة راسم خمايسي (خمايسي، 2013).
د. محمود كيال رئيس قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة تل ابيب.