أتناول فيما يلي “قانون النكبة” (قانون أسس الميزانية [التعديل رقم 40] لعام 2011) بوصفه حالة دراسية للعلاقة القائمة بين التشريع المتعلّق بتذكّر الماضي القومي وبين حقوق الأقليات في دولة ديمقراطية، وذلك اعتمادًا على مقارنة الحالة الإسرائيلية مع حالات أخرى مشابهة لها في أوروبا. تكمن نقطة الانطلاق النظرية في أنَّ القانون ليس أداة لتثبيت التوثيق التاريخي أو الذاكرة الجماعية للدولة القومية، وإنما هو بمثابة حلبة حيث تتم عملية صياغة التأويلات المختلفة بشأن الماضي، تلك التأويلات التي تبلور الوعي التاريخي لفئات معينة في المجتمع. تعتبر الصراعات بين المفاهيم المختلفة للماضي القائمة في الحلبة القضائية إحدى القنوات التي تتعامل عبرها الدولة القومية مع الذاكرة الجماعية بشأن المظالم المقترفة ضدّهم برعاية الدولة.[1]
تستعرض المقالة السياقات السوسيولوجية والسياسية التي ظهر فيها تشريع “قوانين الذاكرة” في ثلاث دول أوروبية – هي فرنسا وأسبانيا وروسيا – كما يظهر في العقد والنصف الأخير، وذلك بغية الاستدلال منها بشأن قانون النكبة في الحالة الإسرائيلية. كما وتقوم المقالة بتحليل الدلالات والأدوار التي عزتها دوائر مختلفة في الدولة وخارجها لقوانين الذاكرة في كل حالة من هذه الحالات، وكذلك إسقاطات التشريعات المختلفة المتعلّقة بحقوق الأقليات على الثقافة السياسية والنقاش الجماهيري في الدولة. وطبعًا تختلف أصناف الأنظمة والماضي التي تتضمّنها هذه القوانين بصورة كبيرة في كل مكان وآخر، ولذلك لا تسعى المقالة إلى المقارنة بين الأنظمة أو بين الحالات التي تتناولها هذه القوانين، وإنما فحص أوجه الشبه والاختلاف بين مضامين القوانين وأهدافها وحيثياتها – وقد تحوّل التشريع إلى ظاهرة فعلية في العقد الأخير – وكذلك إسقاطاتها وذلك لتسليط الضوء على أدوارها وسبل عمل قوانين الذاكرة هذه في الدول الديمقراطية.
ظهرت إحدى النقاشات المركزية بشأن هذه الظاهرة في أوروبا في العقد الأخير، في ضوء ازدياد عدد هذه القوانين في أرجاء القارة وتعريفها بوصفها “قوانين ذاكرة”. ويضم هذا التعريف قوانين تحرِّم أو تُلزم حمل رؤية معينة للماضي القومي (وليس المقصود قوانين تحدّد أيام إحياء الذكرى ومؤسّسات التوثيق والتخليد الرسمية، على سبيل المثال). وتحرّم بعض هذه القوانين التنكّر لوقوع أحداث مأساوية مركزية، مثل قوانين ضدّ نفي المحرقة أو ضدّ إضفاء الشرعية على وقوعها، وغالبًا ما تحمل هذه الطائفة من القوانين طابعًا دستوريًا. وتحرّم بعض قوانين الذاكرة الأخرى النظر إلى الماضي القومي بصورة سلبية أو مناقضة للرؤية القومية السائدة أو الرسمية، وقد أثارت هذه القوانين نقدًا بالغًا ونقاشًا جماهيريًا عاصفًا في الدول التي سنّتها وكذلك في خارجها. ادّعى هذا النقد إلى الكشف عن أنَّ تحديد فحوى ذاكرة الماضي ليس من الوظائف اللائقة للقانون، وأنه يقيّد بذلك حرية التعبير ويحدّ من حرية البحث الأكاديمي. كما وظهرت ادعاءات أخرى مفادها أنَّ قوانين الذاكرة ليست أداة مجدية لنشر ذاكرة معينة يلتف حولها جمهور المواطنين ولا تعزّز الاستقرار والتكافل، إذ إن هذه القوانين تؤدّي في حالات عديدة إلى إقصاء وإخراس مجموعات معينة في المجتمع وتهدّد بشرذمته.
وقد ظهرت إدعاءات شبيهة ضدّ قانون النكبة، الذي طرح في سنة 2009 وتمّ التصديق عليه في سنة 2011. إلاَّ أنَّ إقصاء الذاكرة المشتركة لأحداث سنة 1948، ويوم الأرض، وأحداث هامّة أخرى للمواطنين الفلسطينيّين من لائحة أيام إحياء الذكرى ومشاريع التخليد لدولة إسرائيل تتجلّى كذلك في قوانين قديمة حاضرة في مجاميع القوانين في دولة إسرائيل التي تحتفي بأيام الذكرى الخاصّة بها. لا يتم ذكر الفلسطينيّين وأقليات أخرى بتاتًا في القوانين التي تحدّد أيام الذكرى للدولة. وعليه، بماذا تختلف المقاطعة وتحريم إحياء ذاكرة جماعية معينة، المنصوص عليها في قانون خاص، من إقصاء هذا الإحياء أو تجاهله الشامل، كما يظهر في قوانين إحياء الذكرى الموضوعة بهدف استبطان الذاكرة الجماعية للأغلبية في الدولة؟ عند دراسة الحالة الإسرائيلية وحالات أخرى تتعلّق بسنّ قوانين بشأن ذاكرة عنف الدولة ضدّ فئات معينة يتّضح بأنَّ الحديث يدور حول مراحل مختلفة لعملية التعامل (أو عدم التعامل) مع ذاكرة المظالم المقترفة برعاية الدولة. إنَّ القوانين التي تحدّد مقاطعة وتحريم ذاكرة جماعية معينة لصالح ذاكرة قومية سائدة أو رسمية تظهر في حالات عديدة على خلفية محاولة انتهاك هذا التجاهل الشامل، أي تعتبر هذه القوانين مرحلة من عملية شاملة تسعى إلى إعادة ذاكرة كان قد تم إقصاؤها وإسكاتها إلى الوعي والنقاش الجماهيري.
يمكننا أن نستدل من النقاش الأوروبي، بشأن قوانين الذاكرة والحالات الأوروبية، أنَّ قوانين الذاكرة تسعى إلى حماية الدولة والفئات القوية والمهيمنة، ولا يمكن عزلها عن السياق السياسي المعاصر. إضافة إلى ذلك، غالبًا ما تكون هذه القوانين عرضية وتُستخدم للردّ على أمور عينية لا أداة منع.[2] كذلك قانون النكبة، الذي يسعى إلى حماية الذاكرة القومية الرسمية، فإنه مجرد ردّ فعل عرضي، حتى ولو ظهر كردّ فعل مفرط بقوّته، ناجم عن تآكل مستمر للذاكرة الجماعية الإسرائيلية منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين. لا يمكن وقف المطالبة بإدخال تغييرات على الذاكرة القومية بحيث تشمل ذاكرة الأقليات في إسرائيل، كما هو الحال في أماكن أخرى. والمفارقة هي أنَّ سنّ قانون النكبة قد ساهم في نشر واسع لذاكرة النكبة في المجتمع الإسرائيلي. إلاَّ أنَّ ذلك لا يُعد نصرًا للذاكرة الفلسطينية على ذاكرة دولة إسرائيل، إذ إنَّ الانكشاف على ذاكرة الأقلية لا يعتبر اعترافًا بها أو بالحق بوجودها، لا بل ويؤدّي ذلك أحيانًا إلى إضفاء الشرعية على المظالم. ولذلك، فقد أفضى قانون النكبة كذلك إلى تقييد حقوق الأقلية الفلسطينية وحدود الخطاب الجماهيري.
- د. يفعات غوتمان، ، قسم العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجيا، الجامعة العبرية في القدس
[1] يُنظر:Stiina Loytomaki, 2013. “The Law and Collective Memory of Colonialism: France and the Case of ‘Belated’ Transitional Justice”, International Journal of Transitional Justice 7(2), 205-223.
[2] يُنظر: Raffi Wartanian, 2008. “Memory Laws in France and their Implications: Institutionalizing Social Harmony”, Humanity in Action, June, http://www.humanityinaction.org/knowledgebase/117-memory-laws-in-france-and-their-implications-institutionalizing-social-harmony.
* ד”ר יפעת גוטמן, המחלקה לסוציולוגיה ואנתרופולוגיה, האוניברסיטה העברית בירושלים.