اتّسمت العلاقات بين المواطنين العرب وبين مؤسسات الدولة والأغلبية اليهودية منذ نشأة دولة إسرائيل بالتوتّر الدائم. ويعتبر الشَّرخ اليهودي-العربي شرخًا مدنيًا وقوميًا مشحونًا جدًا، كما أشارت إلى ذلك لجنة أور أيضًا في تلخيصاتها من العام 2003. ومن زاوية نظر معينة، فمن المتوقع أن يعكس هذا الشَّرخ كذلك أحد التحدّيات البالغة جدًا الماثلة أمام عملية وضع دستور رسمي لدولة إسرائيل. ومن منظور الأقلية العربية في إسرائيل، فإنه يتعيّن فحص كل ترتيب دستوري مستقبلي انطلاقًا من إسقاطاته الممكنة على شكل العلاقات الثنائية مع الدولة. إنَّ الترتيبات الدستورية التي تحافظ على أو تعزّز التمييز العميق القائم بين الفئتين السكّانيتين هي بالضرورة ترتيبات تُخضع إرادة الأقلية العربية لمصالح الأغلبية اليهودية. وفي مثل هذه الحالات، تتقوّض الشرعية الديمقراطية المطلوبة لتأسيس هذه الترتيبات على المستوييْن المحلّي والدولي.
لقد سبق واتّفق حزبا الليكود والبيت اليهودي، في إطار اتفاقيات الائتلاف الحكومي في الدورة الـ19 للكنيست، على التكاتف من أجل دعم مشروع قانون الأساس الذي طرحه عضو الكنيست السابق آفي ديختر في الدورة السابقة للكنيست (الدورة الـ18) – ذلك المشروع المستند إلى صيغة وضعها “معهد الإستراتيجية الصهيونية” – ووقّع عليه في حينه نحو ثلث أعضاء الكنيست. وفعلاً، فقد طرح أعضاء كنيست ينتمون إلى هذين الحزبين هذا المشروع في الدورة الحالية للكنيست، كما وطرح مؤخرًا رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو صيغة أخرى لمشروع القانون. حاول نتنياهو في هذه الصيغة أن يُلطّف نسبيًا الصيغة التي طرحها ديختر في الدورة السابقة للكنيست، وكانت موضوع خلاف، وذلك سعيا من نتنياهو إلى تقليص حجم النقد الذي يمكن توجيهه نحوه. فقد شُطبت في الصيغة الجديدة المادة التي أخضعت علانية النظام الديمقراطي للطابع اليهودي؛ وأُلغيت المادة التي تنصّ على أنَّ اللغة العربية هي ليست لغة رسمية في إسرائيل؛ كما وأُلغيت المادة التي تتيح فرصة إنشاء بلدات سكنية على أساس الانتماء الديني أو القومي.
ولكن، وعلى الرغم من “التلطيف” النسبي هذا الذي أدخله مشروع القانون، إلاّ أنه لا زال يحمل العديد من الأفكار الإشكالية جدًا على اقل تعبير. بداية، لأنه يسعى إلى الجزم، على صعيد النقاشات القيمية والأيديولوجية، بشأن الدستور المستقبلي لإسرائيل عن طريق اقتناص هذه الفرصة من دون نقاش جماهيري حيوي حول الموضوع، الأمر الذي ينطوي على المخاطرة بتعزيز الشَّرخ اليهودي-العربي في الدولة. ثانيًا، والأهم، أنَّ مشروع القانون يخلق ويعزّز بصورة جلية وبارزة غياب المساواة بين اليهود والعرب في إسرائيل، وحتى أنه يؤسِّس له على المستوى الدستوري. وفي ظلّ هذه الطروحات يميل المعيار القضائي نفسه صراحة وبوضوح إلى صالح مجموعة الأغلبية على الصعيد الدستوري في الدولة. وكما يبدو جليا من مشروع القانون، لا يقتصر التمييز على المجالات الرمزية فحسب، مثل تعريف الدولة ورموزها، بل يمضي إلى ما هو أخطر من ذلك، إذ يصل إلى القاعدة الأساس للمكانة القانونية لكل أقلية في مجتمع معين: الهجرة والمواطنة، والأرض، والثقافة، والتراث، والدين وغيرها.
تعتبر مسألة التعريف القانوني الرسمي للدولة إحدى المسائل المركزية في كل نقاش حول المكانة الدستورية للأقلية العربية في إسرائيل. جاء في بند “المبادئ الأساس” لمشروع القانون أنَّ “أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي ومكان إقامة دولة إسرائيل”، وبأنَّ “دولة إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي، وعلى ترابه يجسّد طموحاته لتقرير المصير انطلاقًا من إرثه الثقافي والتاريخي”. وبعد ذلك يقرّ مشروع القانون أنَّ “الحقّ بتحقيق تقرير المصير القومي في دولة إسرائيل هو حقّ حصريّ للشعب اليهودي”. وعليه، لا يعترف مشروع القانون بأيّ حقّ لأيّ مجموعة غير يهودية في تقرير المصير، ولا يعترف بأنَّ هذه البلاد هي موطن شعب آخر. ومن هنا، يسعى مشروع القانون إلى تغيير تعريف الدولة من “يهودية وديمقراطية” – وهو التعريف الذي جرى استبطانه في تشريعات مركزية في إسرائيل – والفصل بين طرفي التعريف (يهودية وديمقراطية) من خلال منح أولوية واضحة لتعبير “دولة يهودية”. مما لا شك فيه أنّ ثمّة إشكال واضح من المنظور الديمقراطي في تعريف الدولة كوطن قومي حصري للمجموعة اليهودية، ومن ضمن ذلك اليهود غير المقيمين بين ظهرانيها، إذ يدور الحديث عن دولة خُمس مواطنيها ينتمون إلى قومية أخرى مختلفة ويشكّلون أقلية أصلانية تعيش فيها. إنَّ الشعور بالانتماء لدى المواطنين العرب – والذي كان في السابق كذلك ضعيفا بسبب “يهودية” الدولة وممارسات عدم المساواة العديدة التي تعتمدها – يتضرّر حاليًا بصورة بالغة بسبب التعريف الدستوري المقترح؛ ويتحوّل المواطنون العرب في ظلّ هذا التعريف المقترح إلى مواطني دولة تعلن عبر قواعدها الدستورية المركزية أنها ليست وطنهم القومي وتحوّلهم بذلك إلى غرباء في وطنهم.
تشكّل المبادئ الأساسية التي ينطوي عليها مشروع قانون الأساس حجر عثرة مبدئيًا وفعليًا أمام أية فرصة لتحقيق المساواة الجوهرية لأقلية مضّطهدة. لا يحمل هذا التعريف بذاته طابعًا إقصائيًّا فحسب، بل يُمهّد الطريق كذلك لممارسة أشكال أخرى من الإقصاء في مجالات حياتيّة أخرى، إذ يمكن استخدامه من أجل تسويغ منح الأفضلية لمجموعة الأغلبية في المجالات ذاتها، وبالتالي تسويغ سياسات تستند إلى التمييز والعنصرية. يؤدّي استبطان مثل هذا التعريف الدستوري للدولة إلى خلق تصنيف تراتبي بين المواطنين في إسرائيل، مفاده أنَّ المواطنين اليهود يقيمون في وطنهم القومي، بينما يزعم أنَّ المواطنين غير اليهود يقيمون في دولة ليست وطنهم القومي.[1] وتعزّز المواد الأخرى، التي تظهر في مشروع القانون هذا، التصنيف التراتبي وتفرض ترتيبات حصرية للمجتمع اليهودي، لا سيما بكل ما يرتبط برموز الدولة والهجرة والتقويم الرسمي وأيام إحياء الذكرى وأيام العطل ومكانة التشريع اليهودي.
إضافة إلى ذلك، يتعارض قانون الأساس المقترح مع المبادئ القائمة في صلب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الصادر يوم 29 تشرين الثاني لعام 1947 بشأن تقسيم فلسطين الانتدابية إلى دولتين،[2] وهو القرار الذي دعا كل دولة من الدولتيْن إلى تبنّي “دستور ديمقراطي”، يتضمّن بما مفاده أنه “لا يجوز التمييز بين السكّان بأي شكل من الأشكال بسبب الأصل أو الدين أو اللغة أو الجنس”، وكذلك “يكون لجميع الأشخاص الخاضعين لولاية الدولة الحقّ في حماية القانون”. وعمليًا، فإنَّ المبادئ الأساسية القائمة في صلب مشروع القانون الأساس تتناقض بصورة جلية مع جميع مبادئ قرار التقسيم للأمم المتحدة، وهو القرار الذي لطالما تغنّت به إسرائيل بوصفه قاعدة تاريخية للاعتراف بها.
بعبارات أخرى، فإنَّ مشروع القانون المقترح ليس أنه غير متساوٍ مبدئيًا فحسب، بل هو غير ديمقراطي أيضًا، إذ إنه ينتهك مبادئ أساسية في القانون الدولي، وخاصّة الحق في الحماية المتساوية أمام القانون، والحظر الصريح للتمييز على خلفية الانتماء القومي أو الدين أو اللغة أو الثقافة. لقد جرى استبطان هذه المبادئ في المعاهدات الدولية التي وقّعت عليها إسرائيل، بما في ذلك الإعلان الدولي لمناهضة جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1965، والمعاهدة الدولية للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، والمعاهدة الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966، والاتّفاقية الدولية لحقوق الطفل لعام 1989 (وقد وقّعت دولة إسرائيل على ثلاثتها في العام 1991). وجرى استبطان حقوق الأقلّيات في الإعلان الدولي بشأن حقوق الأقلّيات لعام 1992، والإعلان الدولي بشأن حقوق الشعوب الأصلانية لعام 2007. وعليه، يشكّل التمييز الكامن في مشروع القانون المقترح انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، وهو القانون الذي التزمت به دولة إسرائيل.
إضافة إلى ذلك، يكمن الوجه الثاني للعملة ذاتها في أنَّ مشروع القانون المقترح لا يستبطن أيَّ حقّ جماعي للأقلّية العربية في إسرائيل، وهي أقلّية قومية أصلانية. تعتبر هذه الحقوق الجماعية حقوقًا حيوية إذ إنها لا تنبع من مجرد الاختلاف الجماعي الذي يميّز فئة الأقلية عن فئة الأكثرية. إنها أقرب إلى أن تكون حقوق متأصّلة تحصل عليها فئة الأقلية بسبب خصوصيّتها الجماعية، وتسعى إلى ضمان المساواة الجوهرية لأبناء وبنات فئة الأقلّية، ومنحهم حماية قضائية وقانونية لائقة على المستوييْن الفردي والجماعي. يقوم في أساس هذه الحقوق الجماعية للأقلية العربية الاعتراف بالمجموعة العربية الفلسطينية في إسرائيل بوصفها أقلّية تقيم على تراب وطنها ويستند حقّها في المساواة الكاملة إلى الأساس المدني الفردي وإلى الأساس القومي الجماعي. تشمل هذه الحقوق، من بين جملة الأمور الأخرى، ضمان المكانة المتساوية للغة العربية وتعزيز مكانتها، والتقسيم المتكافئ للميزانيات العامة، ومساواة في المنظومة الرمزية للدولة، ومساواة في ترتيبات الهجرة إلى الدولة والتجنّس فيها، وضمان التمثيل اللائق والمؤثّر للجمهور العربي في مؤسّسات الدولة العامة. أما على النطاق الداخلي الخاص بكلّ مجموعة على حدة، تمنح الحقوق الجماعية الأقلّية العربية حكما ذاتيا إداريا في شؤون التربية والتعليم، والدين، والثقافة، ووسائل الإعلام.
يُعبِّر مشروع القانون، عمليًا ومبدئيًا، عن ثنائية معيارية على صعيد المفاهيم بشأن نظرة القانون الدستوري الإسرائيلي إلى المجموعتيْن في الدولة: نظرة جماعية جلية إلى الأغلبية اليهودية، في مقابل نظرة فردانية خالصة إلى المواطنين العرب (“غير اليهود”). يرسخ هذا التصنيف القومي-الإثني المكانة الدونية للمواطنين العرب ويؤدّي ترسيخه إلى تعزيز إقصائهم ومشاعر الغربة بينهم.
- يعتبر هذا المقال جزءًا من بحث أوسع يجري في إطار مجموعة البحث “مواطنة مشروطة” في معهد فان لير في القدس.
د. يوسف جبارين، المدير العام لمركز دراسات – المركز العربي للحقوق والسياسات ومحاضر في موضوع حقوق الإنسان في جامعة حيفا والكلية الأكاديمية تل حاي.
[1] يُنظر في هذا السياق إلى موقف جمعية حقوق المواطن في إسرائيل الذي رُفع إلى لجنة الدستور والقانون والقضاء التابعة للكنيست المنصوص عليه في رسالة بعثتها الجمعية إلى رئيس اللجنة يوم 19 آذار 2007. وفق موقف الجمعية فإنَّ التعبير “دولة الشعب اليهودي” هو “تعبير مبهَم يحمل دلالات متعدّدة، وأنّ تضمينه في مادة ملزمة في الدستور يفتح بابًا واسعًا وخطيرًا لإضفاء الشرعية على سياسات وممارسات تمييزية وعنصرية ضد غير اليهود، ويثير المخاوف من أنه سيُخضع حماية الحقوق لهذا المبدأ، وسيُستخدم في أجل تسويغ التمييز في الحقوق”. للاطلاع على النصّ الكامل لموقف الجمعية، يُنظر: http://www.acri.org.il/he/?p=1487.
[2] يُنظر:UN, 1947. Resolution Adopted on the Report of the Ad Hoc Committee on the Palestinian Question, 181(II), “Future Government of Palestine”, UN Doc. A/Res/181/A-B, November 29. متوفّر بالإنجليزية على الرابط التالي: http://www.un.org/ga/search/view_doc.asp?؛ وباللغة العربية: قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، المجلد الأول، 1947- 1974، بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينية، ط3، 1993، ص 4- 23؛ وباللغة العبرية: http://knesset.gov.il/process/docs/un181.htm.