كعادة تلك الفئة من العرب المحبّين للتذمّر، اشتكى أحد معارفي بمرارة: “بدلاً من أن ينشغل العرب في ابتكار مائة اسم للأسد، فليكتفوا بنصف اسم”، وأضاف بلهجة درامية تناسب المقام: “وبما تبقّى لديهم من جهد فليصنعوا حبة دواء واحدة لتسكين أوجاع الرأس”.
في مثل هذه الظروف ليس هنالك مكان للنقاش المتّزن مهما حاولت ذلك. وكل شيء يجري دمغه بألوان قاتمة تنطوي على معاقبة للذات. ولكن مع ذلك، أحاول القول إنه، بالذات، عندما انشغل العرب بابتكار أسماء عديدة للأسد أو للسيف فقد خرج من بين ظهرانيهم الكيميائي الكبير جابر بن حيان، وكذلك الطبيب الفيلسوف الكبير ابن سينا والمفكّر الجليل ابن خلدون. وفي الوقت الذي عكفَ فيه اللغوي الخليل بن أحمد الفراهيدي على استحداث بحور الشعر العربي فقد صنع الفلكي عبّاس بن فرناس الأندلسي “قبة سماويَّة” لرصد النجوم ومشاهدة البروق والاصغاء للرعود، وفي فترة لاحقة كسا جسمه بالريش ومدَّ له جناحين، وهكذا طار بهما في الجو لمدة طويلة. تعتبر محاولته هذه أول محاولة للطيران تمّ تحقيقها بصورة متكاملة أكثر بعد مرور عدة قرون.
وهكذا، فإذا ازدهرت الحالة فبالضرورة سيكون الازدهار شاملاً، تمامًا مثلما يكون الأفول والتقهقر شاملين. الكل أو لا شيء. وقد قالت العرب: “إذا أقبلتْ باضَ الحمامُ على الوتدِ، وإذا أدبرتْ بالَ الحمارُ على الأسدِ”. و في الوقت الراهن يرغب وزير المواصلات يسرائيل كاتس عبرنة الأسماء، وعليه ستُكتب “يافة الناصرة”، مثلاً، بحروف عربية باسمها العبري “يفيع”. يقولون في العامية المصرية: “كان غيرك أشطر”، أي هنالك من حاول قبلك وكان الفشل نصيبه. ومن المستحسن هنا تذكير السيد يسرائيل كاتس أنَّ الأتراك، الذين حكموا البلاد، اتبعوا سياسة “التتريك”، ولكن ما تبقّى في كلام الناطقين بالضاد هي كلمة واحدة فقط من كل مشروع التتريك الهائل، وهي كلمة: “طُز”. لا أتوقع لمشروع عبرنة اللغة العربية في البلاد مصيرًا أفضل من ذلك.
ولنا عودة لصديقي الذي يضع الأمور أمام خيار قاس، إما حبة دواء وإما اللغة- يمكن القول ان الأفول الشامل هو ما يسود هذه الأيام. فمن جهة لا يصنعون حبة الدواء، ومن جهة أخرى فإنَّ اللغة في حالة مترديّة، وخير شاهد على ذلك هي حقيقة أن أبناء الجيل الجديد يرسلون رسائلهم النصيَّة عبر الهواتف الخليويّة بكلمات عربيّة مكتوبة بحروف لاتينية. وهكذا لم يعد النّحوُ نحوًا، كما أضحت الجُمل عبارة عن خليط من اللغات والكلمات المجزّأة. ولو أنَّ أبا الطيب المتنبي، أعظم شعراء العرب، بُعث من قبره واطلع على الرسائل النصيَّة الغريبة هذه سيعود أدراجه بدون أن يودّعنا. ومن المؤكّد أنه سوف يستحضر مقولته من قبل ألف سنة حول الفترة التي عايشها: “ولكنّ الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان”.
ولكن، مقابل ذلك، فإنني حائر أمام زمرة المتذمّرين، فما الحاجة لحبة الدواء إنْ لم تكن من أجل تهدئة الرأس بغية الاستمتاع لصوت أم كلثوم وهي تغني قصيدة أبي فراس الحمداني: “معلّلتي بالوصلِ والموتُ دونَهُ، إذا مِتُّ ظَمْآنًا فلا نزلَ القَطْرُ”، أو الاستماع لفيروز تغني للحب المحرَّم في الأندلس: “أَما خشيتَ من الحُرَّاسِ في الطُّرقِ؟ فجاوبَتْنِي ودمعُ العينِ يَسبُقُها، مَنْ يركبُ البحرَ لا يخشى مِنَ الغَرَقِ”.
تعتبر اللغة مرآة للناطقين بها، وإلى حدّ كبير فهي تنعكس فيهم كذلك. يعبّر العرب بواسطة اللغة عن بطولاتهم، أفراحهم، آلامهم وغضبهم. والشيء الذي يحب العرب التعبير عنه بواسطة لغتهم هو الازدراء العميق لمَن يتحدّى لغتهم وثقافتهم. ويقولون: “يا جبل ما يهزَّك ريح”. وحتى لو كانوا عاجزين فلن يستسلموا مطلقًا للهزيمة، لأنهم حتى لو سلّموا بذلك، فإنَّ اللغة العربية لن تسمح بمظاهر الخنوع.
يثير الخط العربي، وهو رسومات أكثر من كونه حروف، الكثير من العواطف الجيّاشة، والغصَّة في القلب، خاصة لدى أولئك الذين فُرض عليهم المنفى. يقول الشاعر العراقي مظفّر النوّاب:
“إحمل لبلادي… حين ينام الناس سلامي… للخط الكوفي يتم صلاة الصبح… بإفريز جوامعها”، ويواصل قائلاً: “يا حامل مشكاة الغيب بظلمة عينيك! ترنَّم من لغة الأحزان، فروحي عربية”.
لليهود، كما يقول النشيد، روح جيّاشة، وللعرب روح عربية – اللغة.
*عودة بشارات كاتب وصحفي