يمكن لقرارين اتّخذتهما محكمة العدل العليا أن يشكّلا حالتين دراسيتين بشأن قدرة المحكمة العليا العمل في ظلّ ضغط جماهيري. يشترك القراران اللذان سنتوقّف عندهما بقاسم مشترك: كلاهما يتعلّقان بمواضيع ترتبط بالأقلية العربية، وفي كليهما تمّت الاستعانة بنهجيْن غير عاديين، لا بل وربما أنهما يتناقضان مع هدفهما المعياري، بحيث تمّ التضييق البالغ جدًا لنطاق حرية التعبير السياسي، التي تعتبر الابن البار في حقل حرية التعبير. تمّ اعتماد نهج الاستقامة (fairness doctrine) في قرار محكمة العدل العليا بشأن شركة همفكاد هلئومي[1] بغية رفض التماس هاجم دستورية قواعد سلطة الإذاعة والسلطة الثانية، التي تفرض منعًا تامًا نشر إعلانات “سياسية”؛ أما بشأن التماس “خريجو المدرسة العربية الأرثوذكسية”[2] فقد اعتمد نهج النضج (ripeness doctrine) بغية رفض التماس فحص مدى دستورية القانون الذي يحدّ من التعبير عن “يوم النكبة” في مؤسّسات مموّلة حكوميًا؛ وفي كلتا الحالتين تمّ الاستناد إلى القضاء الأمريكي. إلاَّ أنه يبدو أنَّ المحكمة الأمريكية كانت ستتوصّل إلى نتائج عكسية لو طرحت أمامها هاتان القضيتان، إذ إنَّ القرار القضائي الأمريكي يعتمد خطًا واحدًا عنيدًا وصارمًا بخصوص الدفاع عن حرية التعبير إلى درجة إبطال مفعول نهج الاستقامة وإخراج حرية التعبير من مجال نهج النضج.
إنَّ الفجوة التي تفصل بين الخطابية المعتمدة في قرار المحكمة بشأن حرية التعبير السياسي وبين القرار في الالتماسين يثير الشكوك بأنها تأثّرت من الجو الجماهيري العدائي ضدّ المحكمة العليا، وهو الجو الذي يتغذّى من قضية المسّ بمبدأ الفصل بين السلطات بفعل المبدأ المعتمد غالبًا في دور القضاء “كل شيء قابل للمعاينة القضائية”. لقد خلق هذا الجو العدائي إحساسًا بالتهديد على مكانة ورفعة المحكمة العليا، ويمكن معاينة هذين القرارين وقرارات أخرى شبيهة بوصفهما محاولة من قبل المحكمة إلى تخفيف حدّة النقد الذي يسعى إلى نزع الشرعية الجماهيرية عنها.
حين صدر هذان القراران، وقرارات أخرى عديدة رفضت من خلالها المحكمة التماسات مرتبطة بالأقلية العربية، كانت المحكمة العليا تتلقّى نقدًا جماهيريًا غير مسبوق. فقد ظهرت ادعاءات بأنَّ المحكمة ترعى أجندة سياسية يسارية وبأنَّ قضاتها يمثّلون وجهة نظر لا تتفق مع وجهة النظر الأخلاقية والسياسية التي يحملها غالبية الجمهور. ويتلخّص الشعار الذي يرفعه الناقدون بأنَّ المحكمة العليا تقف دائمًا إلى صفّ الجمهور العربي.
من الشائع القول إنَّ القضاة يتكلّمون عبر قرارات الحكم. إلاّ أنهم حادوا عن هذا القول واعتمدوا صوت الجمهور في هاتين الحالتين خشية تآكل صورتهم الجماهيرية. حملت العديد من التبريرات التي تظهر في هذين القرارين طابعًا اعتذاريًا أكدّ بعضها على التوجّه الرزين لمحكمة العدل العليا في إلغائها لبعض القوانين وتدخّلها في قرارات إدارية أخرى. ظهر أحد التجلّيات المقزّزة لهذا “التوجّه الرزين” في امتناع المحكمة إلغاء “قانون أسس الميزانية [التعديل رقم 40] لعام 2011” (“قانون النكبة”) الذي يعتقد العديد بأنه يؤدّي إلى تأبيد تكميم الأفواه بفعل العقوبات الاقتصادية المفروضة على المؤسّسات التي تتلقّى الدعم الحكومي والتي ترغب بإحياء يوم النكبة بوصفه يومًا مأساويًا خلال إحياء يوم الاستقلال (الإسرائيلي)، ولهذا فهو يعتبر قانونًا غير دستوري.
إنَّ هذا “التوجّه الرزين” المعتمد كذلك في حالات جلية بشأن عدم دستورية القانون تثير الشكوك بأنَّ المحكمة تتهرّب من اتخاذ قرارات قاسية من شأنها أن تساهم في الخلاف الجماهيري. هنالك من بين الناقدين الذين سيدّعون بالتأكيد بأنَّ المحكمة العليا لا تستطيع حماية الحقوق الأساسية للأقليات، بمعزل عن النقد الموجّه لأسلوب التبرير الذي يمكن له هو بذاته أن يلحق الضرر بمكانة المحكمة. من شأن ذلك أن يفسّر لنا بدرجة معينة نتائج فحص إحصائي أجري مؤخّرًا مفاده أنَّ غالبية الملفات التي يتم تأجيلها في محكمة العدل العليا لفترة زمنية طويلة هي ملفات تتعلّق بقضايا مرتبطة بصورة أو بأخرى بالمواطنين العرب.[3]
بحسب وجهة نظري، فإنَّ السماح بنشر إعلانات سياسية في حدود معينة[4] يمكن له أن يوازن حالة السيطرة على الأجندة الجماهيرية بأيدي الصحافيّين الذين يكونون أحيانًا أسرى بأيدي سياسية، ويكونون أحيانًا أخرى كلاب حراسة على الديمقراطية إلاَّ أنهم ناموا في وقت حراستهم في مثل هذه الحالات.[5] اتّضح من بحث أجري في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية أنَّ خطة السلام التي طرحها عامي أيالون وسري نسيبة حظيت بتغطية ضئيلة في الإعلام الجماهيري،[6] وذلك لأنَّ هذا الإعلام لم يقم بواجباته المهنية كما يجب.
- د. دافيد رونين، حقوقي
[1] قرار محكمة العدل العليا 03/ 10203، شركة همفكاد هلئومي م.ض ضدّ المستشار القضائي للحكومة وآخرين.
[2] قرار محكمة العدل العليا 11/ 3429، خريجو المدرسة العربية الأرثوذكسية في حيفا ضدّ وزير المالية وآخرين.
[3] رفيتال حوبيل، 2014. “فحص صحيفة هآرتس: الملفات المؤجّلة في المحكمة العليا لأكثر من عقد”، هآرتس، 7.2.14، http://www.haaretz.co.il/news/law/.premium-1.2237785.
[4] يعيل كوهن-ريمر ومردخاي كرمنيتسر، 2008. “إلغاء نشر الإعلانات السياسية – هل فعلاً هو مسّ بحرية التعبير؟ وهل يعتبر هذا المسّ مشروعًا؟ أفكار بشأن قرار المحكمة ‘همفكاد هلئومي’،” القدس: المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، 25.10.08، http://www.idi.org.il. يختلف الكاتبان مع قرار المحكمة والذي مفاده أنَّ نهج الاستقامة لا يسري على الإعلانات، ولهذا فإنَّ المنع الكلي لنشر إعلانات سياسية مشروع.
[5] يوفال كرنيئل، 2001. “إعلاميون: ما بين الصحافة، والترفيه، والإعلانات،” عليه مشباط 2، ص 233- 251.
[6] يفتح إلعزار، 2004. “حدث لهم أمر مدهش في طريقهم إلى جنيف”، هعين هشفيعيت، 1.1.04، http://www.the7eye.org.il/29494.