تعتبر مكانة اللغة العربية في إسرائيل شائكة ومعقدة. فقد تحدّدت مكانة اللغة العربية في فلسطين بوصفها لغة رسمية في البلاد بموجب المادة 82 من دستور حكومة فلسطين لسنة 1922 إبّان الانتداب البريطاني منذ سنة 1922 وحتى سنة 1947. أدى اعتماد هذه المادة في التشريعات الإسرائيلية عند قيام الدولة، لمنح مجموعة واسعة من الحقوق للناطقين باللغة العربية. في المقابل، فإنَّ المكانة الفعلية للغة العربية بعيدة كل البعد عن مكانتها المنصوص عليها في القانون الانتدابي، حتى في ظل التفسير الضيّق لهذا القانون.
منذ أكثر من عشر سنوات تمّ طرح عدة مشاريع قوانين لإلغاء أو إعادة النظر في المادة 82 الخاصة بالمكانة الرسمية للغة العربية. طُرح على جدول أعمال الكنيست في العام 2011 مشروع قانون من قِبل عضو الكنيست ميخائيل كلاينر، وقد جاء هذا المشروع كردّ فعل على قرار محكمة العدل العليا، الملف رقم 4112 لسنة 1999، عدالة ضد بلدية تل أبيب- يافا، والذي قضى بإلزام استخدام اللغة العربية على اللافتات البلدية في المدن المختلطة. ودعا مشروع القانون هذا لتغيير المادة 82، وإلغاء المكانة الرسمية للغة العربية، والإبقاء على اللغة العبرية اللغة الرسمية الوحيدة في إسرائيل (مشروع قانون رقم 579 لسنة 1999، الملاحق). سُحب هذا المشروع من على جدول الأعمال، ولكن أثيرت هذه القضية مجدّدًا في الحلبة السياسية بين العامين 2006-2007 على خلفية الممارسات الحثيثة للكنيست الـ 16 من أجل وضع دستور يشتمل من بين عدة أمور أخرى على بند يتعلّق بـ”اللغة”.
لم تتمكّن مداولات لجنة الدستور من استيفاء مناقشة الموضوع، إلاَّ أنَّ هذه القضية لا تزال تثار من حين لآخر بصورة متواصلة من خلال تقديم مشاريع قوانين. اقترح عضو الكنيست روبرت طيبايب أن تبقى العبرية اللغة الرسمية، في حين تكون اللغة العربية “لغة رسمية ثانوية” إلى جانب الروسية والإنجليزية (مشروع قانون رقم 18/1088، أيار 2009). بينما منح عضو الكنيست أرييه إلداد العبرية مكانة “لغة الدولة” واقترح على الناطقين بالعربية أن يتمتعوا بـ “اهتمام خاص” يتم التعبير عن ذلك في الإعلانات الخاصة بالسكّان العرب وكذلك على اللافتات في أماكن سكناهم (مشروع قانون رقم 18/1259، حزيران 2009). يتناول “مشروع القانون الأساس: إسرائيل- الدولة القومية للشعب اليهودي”، الذي اقترحه عضو الكنيست آفي دختر في العام 2011، طيفًا واسعًا من القضايا ذات الصبغة الرمزية، ومن ضمنها اللغات الرسمية. ودعا هذا المشروع إلى إلغاء المكانة الرسمية للغة العربية لصالح “المكانة الخاصة” (مشروع قانون رقم 18/3541، آب 2011). وفي الصيغة الجديدة لهذا القانون، والتي اقترحها عضو الكنيست ياريف لافين مؤخرًا، تم تحديد مكانة اللغة العبرية فقط، ومُنح المشرّع الحق في مناقشة الحاجة للاعتراف بمكانة لغات أخرى.
حتى اللحظة الحالية، فإنَّ صيغة الدستور لا تزال بعيدة من مرحلة الحسم، وكذلك فإنَّ المادة 82 بقيت على حالها. ولكن هذه القضية طُرحت ونوقشت في الخطاب الجماهيري، والسؤال المطلوب طرحه هو كيف بالإمكان إثراء النقاش بصورة تعمل على تطويره إذا ما تم البتّ في هذه القضايا؟ إنَّ النموذج الأفضل حسب رأيي هو النموذج الذي يتيح التدريج الرسمي بين العبرية والعربية ولكنه يعترف بالمضامين الرمزية للمكانة الرسمية.
يكمن مصدر قوة نموذج التدريج في قدرته على تحقيق التوازن. فمن جهة، يستطيع هذا النموذج ضمان المكانة الأولى للغة العبرية، ومن جهة أخرى، تخصيص مكان للغة العربية ومنحها الأولوية على حساب غيرها من لغات الأقليات الأخرى نظرًا لكونها لغة أقلية لها خصائصها القومية الأصلانية. يبقى خيار التسلسل الهرمي بين اللغات الرسمية (خلافًا لـ “المكانة الخاصة”) هو الأكثر اتزانًا من بين مجموعة خيارات التدريج الأخرى.
بداية، على الرغم من ضبابية اصطلاح “المكانة الرسمية”، فإن مدلولات “المكانة الخاصة” ليست بأقل ضبابية. ثانيًا، يتمثّل الثمن الذي يتطلّبه خيار التدرّج بين اللغات الرسمية في التنازل عن المساواة (الرسمية) بخصوص مكانتي العبرية والعربية، ولكن هذا لا يعني التنازل التام عن مسألة كونهما لغات “رسمية”. يبدو أنَّ صنّاع القرار يتجنّبون الممارسات التي تنطوي على إلغاء المادة 82 لأنهم يخشون كما يبدو المساس بالوضع الراهن. ولكن في مقابل هذا التنازل، إذا تمَّ تعزيز مكانة واضحة معدّلة وقابلة للتطبيق للعربية، فإنَّ هذا ثمنًا معقولاً وممكنًا.
تشير مشاريع القوانين المختلفة المتعلّقة بمكانة اللغة العربية إلى التوتر القائم بين دور اللغة كأداة وظيفية وبين دورها الرمزي-الهوياتي. يتم التعبير عن الجانب الوظيفي من خلال اعتبار اللغة بأنها تتيح أمامنا فرصة القيام بالنشاطات والممارسات اليومية، مثل الوصول للخدمات والمعلومات، بينما يتجلّى دورها الرمزي في ربط استعمال اللغة بالمحافظة على الهوية الجماعية وتعزيزها. تطرح المداولات الجارية بشأن المكانة الرسمية للغة العربية الحاجة للاعتراف بالدور الرمزي لها، أي ضرورة السماح للغة العربية بالعمل كأداة لتكوين هوية جماعية تختلف عن هوية مجموعة الأغلبية، وفي نفس الوقت كوسيلة لتعزيز انتماء الأقلية العربية للدولة والشعور بأنّها أقلية سكّانية مرغوب فيها في الدولة أيضًا. لا يتعلّق الأمر بالاعتراف بهذه القضية كقضية جوهرية فحسب، بل ترجمة هذا الاعتراف لأفعال يتعيّن على الدولة القيام بها كي يتم تحقيق الأمر ووضعه موضع التنفيذ.
وينتج عن ذلك أنه ليس بالإمكان إعفاء الدولة من التزاماتها تجاه الناطقين بالعربية بمجرد أنها تجعل المعلومات والخدمات في متناول أيديهم. إنَّ المفهوم الشامل هذا لدور اللغة في حياة الأقليات ومحاولات التوضيح النظري المنهجي لا تزال في خطواتها الأولى في الخطاب الإسرائيلي. مع ذلك، فإنَّ تغلغل هذه الأفكار الرئيسة في الخطاب تقوِّض شرعية الموقف المؤيِّد للعبرية بشكل جليّ، وتسهم في تعزيز مكانة المواقف ذات المفهوم اللغوي- الاجتماعي الأكثر ليبرالية، كما هو الحال مثلاً في موقف التدريج. علاوةً على ذلك، فإنَّ الاعتراف بالمضامين الرمزية للمكانة الرسمية يتيح التصدّي للادعاءات والاقتراحات التي تقوّض هذه المكانة وتعتبر أنّ دورها محصور في كونها لغة تستخدم لمنح هذه الخدمات أو تلك، مثل الكتابة على اللافتات والإعلانات الرسمية. يطرح مرارًا وتكرارًا في الخطاب الدائر حول مشاريع القوانين هذه الادعاء القائل بأنَّ المكانة الرسمية هي مرآة للواقع (بخلاف الأداة المشكِّلة للواقع)، ونظرًا لأنَّ مكانة اللغة العربية في الواقع لا تعكس مكانتها الرسمية، فليس هناك مناص من تغيير وثيقة السياسات، وهكذا ينشأ الانسجام بين السياسات والممارسة. عندما يتم الاعتراف بأنه يكمن في المكانة الرسمية تلك الدلالات الرمزية، حينها لن يكون معقولاً أن يكون المنطق القائم في أساس تحديدها هو التعبير عن الواقع بأمانة. بالطبع فإن الإعلان عن المكانة الرسمية من دون تعزيز ذلك بمضامين فعلية واضحة يتم فرضها بكفاءة سيبقى حبرًا على ورق لا أكثر، ولكن في نفس الوقت فإن التنازل منذ البداية عن الطاقة الكامنة في الإعلان الرسمي لتشكيل الواقع الاجتماعي اللغوي المأمول يجافي الصواب.
د. دفنا يتسحاكي هي محاضرة في قسم اللسانيات في جامعة بار إيلان وكلية تأهيل المعلمين “سمينار الكيبوتسيم”.