تتوالى الأحداث في منطقتنا مما يشكل تحدٍ أمام الجمهور لفهم صورة الواقع المحلي، القطري والإقليمي والدولي التي نعيشها. ها هي إنتخابات الكنيست، تُزاحم نشاطات الاحتجاج الجماهيرية التي عصفت في مدينة القدس خلال الأشهر المنصرمة، والتي بدورها تزاحم ظاهرة الشباب العربي الذي غادر البلاد وانضم الى داعش في اكتوبر الاخير والتي زاحمت صور الحرب على غزة التي رافقتها حتى نهاية شهر أب وسبقتها حركة الاحتجاج على عمليات تدفيع الثمن التي انطلقت يوم 1.7.2014 في أعقاب إغتيال الفتى محمد ابو خضير في القدس. وتزاحم هذه الاحداث السياسية التحديات الاقتصادية التي تواجهنا من غلاء المعيشة، وأسعار المنازل التي يتحمل مسؤوليتها الجزئية أصحاب الشركات الكبيرة. فهناك من يدفع ثمن المستوطنات، والتمييز، والاحتلال والحرب. هناك من يتساذج ويدعي ان غلاء المعيشة هو نتيجة حصرية لطمع أصحاب رؤوس الاموال ويذر الرماد في العيون. وهناك من اتهم اليهود المتزمتين “الذين إمتصوا دمنا” كما وصفهم بعض السياسيين الاسرائيليين مثل يئير لبيد ولم يؤدي طردهم من الائتلاف الحكومي الى خفض غلاء المعيشة الذي يعاتي منه المواطن.
يتطلب تحليل الصراعات السياسية والاجتماعية ان نفحص تفاصيل الأزمات ومسبباتها لكي نفهم الصورة الكاملة ونضع الحلول الملائمة. هناك من يحاول في الواقع الاسرائيلي ان يدعي اننا نزاول مكاننا ويتجاهل عن قصد جذور المشاكل التي نواجهها. وعمليا، وعلى الرغم من التغيير السياسي الايجابي الذي أدى الى الإعتراف في وجود الشعب الفلسطيني وقبول مبدأ الدولتين على مستوى التصريح الكلامي الا اننا لا نتقدم باتجاه السلام والحياة الطبيعية التي يبحث عنها كل إنسان في كافة بقاع العالم.
سأحاول من خلال هذا المقال تسليط الضوء على تأثير الوضع السياسي والاقتصادي القطري والاقليمي على الشباب العرب الفلسطينيين في إسرائيل والذين يشكلون ركيزة أساسية من ناحية كمية ونوعية في واقع المجتمع الفلسطيني عامة. تعتبر هذه الفئة من أهم محركات المجتمع الفلسطيني أخذا بعين الاعتبار ان اكثر من نصف هذا المجتمع هو من فئة الشباب التي تملك قدرة إنتاج واستهلاك وتأثير سياسي. وتعتبر فئة الشباب من أهم المجموعات التي تساهم في النمو الاقتصادي للدولة.
يتم تهميش المجتمع الفلسطيني من الحوار السياسي والاقتصادي والاعلامي الاسرائيلي عامة. إن خمس مواطني الدولة مغيبون عن الحوار الاعلامي والسياسي، ويندر ان نشاهدهم على شاشات التلفزيون الاسرائيلية او حتى العربية. وتقوم المؤسسة الإعلامية الاسرائيلية في إستبعاد هذا الجمهور من المشهد التلفزيوني الذي يقوم في وظيفة “بلورة هوية الشعب اليهودي”. يمنع الانهماك الاسرائيلي في تشكيل الشعب اليهودي Nation Building بعد أكثر من 66 سنة على إقامة اسرائيل أي احتمال لمشاركة الأقلية العربية في مشروع “الدولة الاسرائيلية”، والتي تعرف نفسها كدولة “يهودية ديمقراطية”.
يؤدي هذا الواقع الى تجاهل حق خمس المواطنين بمكانة قانونية واضحة تحمي حقوقهم الجماعية والفردية. تصادر الدولة مواردها الاقتصادية والرمزية لصالح الاغلبية اليهودية، وأصبح من الطبيعي ان تطالب الاقلية القومية بضمانات دستورية تحمي الفرد الفلسطيني والجماعة التي ينتمي اليها. وتطالب هذه المجموعة في سن قوانين تحمي الحقوق الدينية للمجتمع الفلسطيني في دولة ما زالت تصادر الوقف الاسلامي وترفض أن تعيده الى أصحابه مستخدمة قوانين “الحاضر الغائب”. يتطلب التمييز في رصد أقل من 3% من ميزانية وزارة الثقافة في البلاد للمؤسسات الثقافية العربية الفلسطينية ان يتم بلورة قانون الادارة الذاتية الثقافية ليواجه التمييز ويحمي ثقافة الاقلية العربية ويمنحها القدرة ان تبدع وتتحاور مع محيطها. وقد آن الاوان أن يحمي القانون الحق في إنشاء أسرة خصوصا ان القانون الاسرائيلي يمنع حصول عائلات فلسطينية مختلطة على المواطنة في دولة يحصل فيها كل من يعلن انه يهودي في العالم على حق الهجرة والمواطنة والحصول على مخصصات تجبى من دافعي الضرائب العرب في البلاد. تتدخل الدولة في الحق الاساسي في العيش الكريم وبناء العائلة بسبب سياسة عنصرية تهدف الى السيطرة على حياة آلاف العائلات العربية وذلك لكون أحد أطرافها من المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967.
من الطبيعي ان يتطلب الواقع الحالي قانون يلزم المكاتب الحكومية والقطاع الخاص بتشغيل عرب خصوصا ان فقط 10 % من موظفي المكاتب الحكومية وأقل من 2% من موظفي شركات تقنيات المعلومات وأقل من 1.5% من المحاضرين في الجامعات هم من العرب، آن الأوان ان يتم سن قانون يضمن دمج العرب في كافة قطاعات التشغيل مما يساهم في معالجة مشاكل الهجرة والبطالة.
بين عمليات إرهاب تدفيع الثمن ونتان زادة
قتل في إسرائيل في السنوات الاخيرة 48 مواطنا عربيا بأيدي مدنيين يهود وموظفين في أجهزة الامن ورجال شرطة، آخرهم كان الشباب سامي الجاعر من رهط وخير حمدان من قرية كفر كنا و 13 من هؤلاء القتلى استشهدوا خلال مظاهرات سياسية في هبّة اكتوبر، وأربعة أخرين خلال عملية إرهابية نفذها الجندي والمستوطن نتان زادة. في حين يقف وزير الأمن الداخلي امام الكاميرات ويناشد قوى الامن ان تقتل وتهدم منازل منفذي عمليات فلسطينيين في مدينة القدس، تعاقب المؤسسة الاسرائيلية سبعة مواطنين شفاعمريين هبوا للدفاع عن أنفسهم في مواجهة القاتل نتان زادة وقد تم محاكمة المتهمين وسجنهم. ولكنها تُشرعن بالمقابل قتل المتهمين الفلسطينيين في عمليات القدس، ولا تحقق في أي ظروف تم قتلهم ولا تخجل من ملاحقة ومحاكمة وسجن مواطني شفاعمرو الذين دافعوا عن عائلاتهم في مواجهة نتان زادة.
عانى آلاف الشبان العرب من الجليل والمثلث والنقب من الصمت الشعبي والشرطوي والحكومي والاعلامي على سلسلة عمليات “تدفيع الثمن” الارهابية التي نفذت خلال العامين الاخيرين. وخرج آلاف الشبان الى الشوارع في مطلع شهر تموز2014 للاحتجاج على العنصرية وحرق الفتى محمد ابو خضير. وكان قد هرب مئات الشبان العرب من القدس بعد أن تعرضوا الى اعتداءات في أعقاب اكتشاف جثث المستوطنين الثلاث. وعلى الرغم من شرعية الاحتجاج على الاعتداءات العنصرية، رفضت الغالبية الساحقة من مجتمعنا الاعتداء على اي مواطن يهودي مثلما حدث في مدينة قلنسوة. تصدت الشرطة لحركة الاحتجاجات الجماهيرية في القرى والمدن العربية والتي انطلقت بسبب العنصرية والاعتداءات على العرب في ملاعب كرة القدم لفريق بيتار القدس، وعلى العنف والتمييز وعمليات تدمير الأملاك والاعتداء على الأماكن المقدسة، كما استمرت احتجاجاً على الحرب على غزة. لا يمكن التعامل مع حركة الاحتجاج الشبابية والشعبية دون فهم الجذور الاقتصادية والاجتماعية التي ترافق الممارسات العنصرية والتمييز القانوني التي يعاني منها هؤلاء الشباب كونهم جزءا من المجتمع العربي.
العنف المجتمعي ودولة القانون تقف على مشارف مفرق جلجولية
يعاني الشباب العرب يوميا من العنف المجتمعي، والذي ينبع من الاحباط وانهيار القيم والتمييز القومي والاقتصادي الاجتماعي. يعاني هؤلاء الشباب الى جانب العنصرية من العنف المجتمعي الداخلي الذي أدى الى موت مئات الرجال والنساء العرب بسلاح غير مرخص بأغلبيته. تبلور الاغلبية اليهودية القوانين وتطبقها لصالح اليهود مما يؤدى الى اغتراب العرب عن القوانين التي تسنها الدولة حيث يشعر المواطن العربي أنه في دولة مختلفة عندما يدخل الى قريته ومدينته. أصبحت سلطة القانون لا تدخل مدن الطيرة والطيبة والناصرة والاحياء العربية في حيفا حيث يعلم القاصي والداني ان أجهزة القانون لن تخاطر في أمن أفرادها لتنفيذ القانون داخل القرى والمدن العربية.
ونشهد، على سبيل المثال، أن عميلا ينفذ عملية قتل في قلقيلية الفلسطينية فيُنقل الى جلجولية ثم وينفذ عملية قتل فيها وينقل مع عائلته الى الاحياء العربية في حيفا لينفذ فيها عملية قتل ثالثة ذهب ضحيتها مواطن عربي حيفاوي. كما نتابع اغتيال مدير مدرسة في مدينة الطيبة على خلفية إدارة مقصف في المدرسة لنفهم ان هذا هو دليل آخر على الازمة التي يواجهها المجتمع الفلسطيني. عائلات الضحايا تدرك أن القانون يقف عند مشارف جلجلولية والطيبة وتضطر الى الدفاع عن نفسها او الانتقام. دولة تتغاضى شرطتها عن الجريمة والسلاح غير المرخص ليشعر المجرمون فيها محميون. ويقتصر تعريف “أخذ القانون” على عمليات الانتقام اليهودية كما يعرفها رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو في خطابه في شهر تموز 2014. يشعر الشاب العربي في هذا الواقع بغربة وببعد، وهو يرفض التهميش ويبحث عن وسائل للدفاع عن نفسه داخليا وفي مواجهة العنف المجتمعي. أدى هذا الواقع الى ان يعلن كل مواطن عربي خامس انه لا يرفض فكرة حيازة سلاح غير مرخص. مجتمع كهذا، يشعر ان المؤسسات الاجتماعية والقانونية لا تحميه ويبحث عن وسيلة ليحمي نفسه وعائلته.
تصفية الحياة المشتركة- هدف المستوطنين
يتعامل المستوطنون مع الجماهير العربية الفلسطينية في إسرائيل على انهم جزءًا من العدو، فأقاموا مؤسسات تهدف الى تخريب الحياة المشتركة بين اليهود والعرب. تعمل هذه التنظيمات ، وجمعيات مثل “أياليم” و “رغبيم” و”لهافا” على ملاحقة سكان القرى غير المعترف بها في النقب بحجة إقامة قرى للطلاب الجامعيين. وتم تعريف البدو في هذه القرى على أنهم “معتدون” على أرض الدولة التي صادرت أراضيهم. هؤلاء المستوطنون الذين يستولون على أراض فلسطينية ويبنون بدون تراخيص وبشكل منافي للقانون الدولي، باشروا في بناء القرى الطلابية والمزارع العائلية المنتشرة في مناطق مختلفة من النقب. ويقومون بالتحريض العنصري ضد العرب البدو الذين دفعوا أبهظ ثمن نتيجة التمييز العنصري. تحولت هذه الفئة المستضعفة الى هدف للمستوطنين حيث تصل نسبة وفاة الاطفال في هذه المنطقة الى 18 لكل الف ولادة، في مقابل المعدل العام في اسرائيل الذي يصل الى 3 لكل الف .
تستهدف مؤسسات المستوطنين الحياة المشتركة في المدن المختلطة مثل عكا ويافا واللد والرملة وحيفا ونتسيرت عليت. ويمكن دراسة اعتداءات يوم الغفران في مدينة عكا عام 2008 كنموذج لإستهداف مدينة ذات قدرة سياحية واقتصادية في قلب الجليل العربي لتتحول الى مدينة يستهدف فيها مواطنوها العرب على خلفية قومية. وقد تم الاعتداء على 14 منزل لمواطنين عرب واخلائها من أحياء عكا الجديدة وما زالت المدينة تبحث عن طريقها لإعادة بناء الحياة المشتركة في أعقاب هذه الإعتداءات.
تستهدف مؤسسات المستوطنين الحياة المشتركة في المدن المختلطة مثل عكا ويافا واللد والرملة وحيفا ونتسيرت عليت. ويمكن دراسة اعتداءات يوم الغفران في مدينة عكا عام 2008 كنموذج لإستهداف مدينة ذات قدرة سياحية واقتصادية في قلب الجليل العربي لتتحول الى مدينة يستهدف فيها مواطنوها العرب على خلفية قومية. وقد تم الاعتداء على 14 منزل لمواطنين عرب واخلائها من أحياء عكا الجديدة وما زالت المدينة تبحث عن طريقها لإعادة بناء الحياة المشتركة في أعقاب هذه الإعتداءات.
شاهدنا في الصيف الاخير (19.7.2014) كيف إعتدى الاف العنصريين اليهود، والذين تم تجنيد جزء منهم من خارج مدينة حيفا، على متظاهرين عرب ويهود عارضوا الحرب على غزة. وقام مستوطنون في القدس بتمويل ودعم من الحكومة بطرد عائلات عربية كاملة من منازلها بهدف اقامة مستوطنات في محاولة لفرض واقع جديد في القدس والمسجد الاقصى من شأنه ان يمنع حياة مشتركة. إن اغتيال محمد ابو خضير وعمليات تدفيع الثمن الاسبوعية والتحريض العنصري والاعتداءات الجسدية على العرب، أدت الى مغادرة مئات الشباب العرب من القدس والعودة الى عائلاتهم في الجليل والمثلث. إذ أصبحت العنصرية المقدسية غير محتملة من قبل الشباب العرب الذين انتقلوا للدراسة الجامعية او العمل في القدس. إعلامية عربية كانت قد حصلت على منحة دكتوراة في الجامعة العبرية عادت الى حيفا بعد ان تعرضت لمواجهات عنيفة فلخصت تجربتها “لا تستطيع ان تعيش كعربي في مدينة القدس” ويمكن توثيق ممارسات من هذا النوع ايضا في مدن مختلطة اخرى مثل يافا واللد والرملة.
الدراسة في الاردن والبطالة المزمنة
حددت مؤسسات التعليم العالي والتدريب المهني منالية التعليم العالي امام الشباب العرب. وفي الان ذاته، منع مجلس التعليم العالي إقامة جامعة عربية وحتى كلية ممولة ومعترف بها من قبل مجلس التعليم العالي. وأصبح التعليم العالي وتحصيل مهنة، عبارة عن تحدٍ أساسي يواجه العائلات العربية التي تبحث عن وسيلة للنهوض في مستقبل أولادها. فهمت المملكة الاردنية الفرصة الاقتصادية التي يشكلها المجتمع الفلسطيني ففتحت أبواب مؤسساتها الجامعية أمام الشباب الفلسطيني من الداخل. وأدرك الملك الاردني، ما لم يدركه النظام المصري ومجلس التعليم العالي الاسرائيلي، وهو حاجة العائلات الفلسطينية الى تعليم أبنائها فاستفاد من هذه الحاجة لدعم الاقتصاد الاردني وتعميق مدخوله المالي من خلال فتح أبواب الجامعات أمامهم وتخصيص المنح التعليمية لهم. هناك اكثر من سبعة الاف طالب عربي يتعلمون في الجامعات الاردنية وتوفّر هذه العائلات ما يزيد عن 300 مليون شيكل سنويا دخلا للاقتصاد الاردني. ينكشف هؤلاء الطلاب لأول مرة أمام واقع العالم العربي على مركباته وتعقيداته وفرصه ومخاطره. كما ينكشفون للحوار العربي وتحدياته ويلتقون مع اللاجئ الفلسطيني ، والعراقي والسوري. يعود الشباب من الاردن مختلفين عن ما صممته لهم الاجهزة التربوية والامنية الاسرائيلية المنغلقة على ذاتها.
يندمج الاف الطلاب الفلسطينيين في الداخل في الجامعات الفلسطينية مثل الجامعة العربية الامريكية في جنين، وجامعة بير زيت وجامعة النجاح. يواجه هؤلاء الخريجون مصاعب جدية في الاندماج في سوق العمل الاسرائيلي بعد عودتهم الى البلاد وهو سوق يعتمد على اللغة العبرية وعلى علاقات عمل نشأت في “وحدة المخابرات العسكرية 8200” ونقابات العمال والصناعات العسكرية. يشار الى ان غالبية الاطباء العائدين الى البلاد يعتبروا قصة نجاح مهنية. بالمقابل يواجه الصيادلة مصاعب في الحصول على فرص عمل فيضطروا الى القبول بأجور زهيدة في شبكات الصيدلة الاسرائيلية.
استنهض مجلس التعليم العالي في العامين الاخيرين، بعد جهود مرافعة متواصلة، وبلور خطة لتحسين منالية التعليم العالي بين الشباب العرب. فأدركت الجامعات التي تعاملت بعداء تاريخي مع الطلاب العرب، أنها خسرت خمس المرشحين للتعليم العالي. في السابق رفض مجلس التعليم العالي طلبات المؤسسة الاكاديمية في الناصرة(1) وكلية القاسمي وكلية سخنين ودار المعلمين العرب للتحول الى مؤسسات جامعية او كليات اكاديمية. ومؤخراً وافقت جامعة حيفا ومجلس التعليم العالي على احتضان المؤسسة الاكاديمية في الناصرة وذلك بعد ان شارفت المؤسسة على الانهيار. إن تجاهل القدرة الكامنة للتعليم العالي بين الشباب والفتيات العرب المتعطشين للاندماج في الصناعة والاقتصاد والخدمات يؤدي الى تحويل المئات من هذه الشريحة وخصوصا بين النساء الأكاديميات الى لعنة اجتماعية سياسية واقتصادية.
يشكل عدم التوازن بين الاستثمار في التعليم العالي والتوقعات من العائد الاقتصادي للاستثمار في التعليم احد مسببات خيبة الامل بين الشباب وعائلاتهم التي تتوقع تغيير اقتصادي واجتماعي في أعقاب الاستثمار في التعليم العالي.
من فتح الى داعش
لقد نجحت القيادة الفلسطينية في اسرائيل ومنذ نكبة عام 1948 في إقناع غالبية الشباب الفلسطيني في اسرائيل الامتناع عن الانضمام الى المقاومة المسلحة من منطلق فهم خصوصية مكانة هذا المجتمع. ولم يختار المجتمع الفلسطيني الكفاح المسلح طيلة فترة الحكم العسكري ولا في أعقاب انطلاق منظمة التحرير الفلسطينية في الأول من كانون الثاني 1965 . اثير موضوع تجنيد الفلسطينيين على كافة مستويات التنظيمات الفلسطينية، ونجحت القيادة المحلية في اقناع غالبية القيادات الفلسطينية والعربية بعدم تجنيد شباب فلسطينيين للكفاح المسلح ضد سياسة اسرائيل. منذ مغادرة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش لارض الوطن والانضمام الى منظمة التحرير الفلسطينية وحتى انضمام عشرات الشباب العرب الى داعش مؤخرا، يدور نقاش عميق حول مكانة ودور المجتمع الفلسطيني في المنطقة. ما زال هذا النقاش بعيدا عن الاعلام الاسرائيلي والجمهور اليهودي. استمر هذا الأمر سنوات طويلة حتى تبنت فصائل منظمة التحرير موقف اعضاء الكنيست العرب وتوقفت عن تجنيد فلسطينيين من اسرائيل للكفاح المسلح. ولاحقا، في أعقاب قيام حماس بتجنيد شباب عرب من الداخل جرى حوار شبيه مع حركة حماس التي قبلت هذا الموقف ايضا.
نفهم من هذه الخلفية ان موجة الانضمام الحالية الى داعش هي مؤشر لمستوى الإحباط والقدرة الهدامة التي ممكن ان يشكلها شباب محبط لا يرى مستقبلا سياسيا ولا اقتصاديا. إن انضمام اكثر من 30 شاب عربي خلافا لموقف عائلاتهم وقياداتهم السياسية والدينية المحلية، ليحاربوا “الكفار” في سوريا والعراق، على الرغم من معرفتهم انهم على الاغلب سيقتلوا او يسجنوا عند عودتهم هي مؤشر خطير على حجم أزمة الشباب. يلحظ المتحدث مع عائلات هؤلاء الشباب وجود قدرات كان من الممكن ان تساهم في بناء مستقبل لهؤلاء الشباب، كما يلحظ مستوى الاحباط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يعاني منه هؤلاء الشباب والتي أدت بهم الى اتخاذ قرار التنازل عن الحياة في اسرائيل والانضمام الى حرب ضروس قضت على حلم “الربيع العربي”.
لا يرى هؤلاء الشباب آفاقاً اقتصادية وسياسية، وانضمامهم الى داعش أخرجهم من قوقعتهم الاجتماعية، شباب يتواصلون مع العالم من خلال الشبكات الاجتماعية ويقومون باتخاذ قرار سيؤدي الى مقتلهم وسيساهموا في تدمير المنطقة. شباب مع قدرات كان بامكانهم ان يبنوا مستقبلا مهنيا على المستوى الشخصي والعائلي والمجتمعي وللدولة وللمنطقة. شباب تحولوا من قدرة بناءة الى خطر حقيقي على أنفسهم وعلى المنطقة كلها، التي حلمت في ربيع عربي.
مطلوب رؤية سياسية، اجتماعية واقتصادية
يتراجع المجتمع العربي الفلسطيني عن شراكته في اللعبة السياسية او الديمقراطية الاسرائيلية وينسحب الى الاحتجاج الشعبي، الذي يتحول في جزئه الى احتجاج عنيف، يشكل الشباب مركزه. تسجل المظاهرات القانونية، والالتماسات لمحاكم العدل العليا، والمرافعة البرلمانية، ومطالب الاندماج في الاعلام الاسرائيلي العبري والتصويت للكنيست تراجعا مستمرا في أوساط الشباب وخصوصا المنتمين للشرائح والمناطق الافقر في البلاد.
يتطلع العرب مثل اليهود نحو تصور سياسي واقتصادي يقودنا الى حياة طبيعية تمكننا بالتمتع من النمو الاقتصادي الذي تحدث عنها رئيس الحكومة ووزير ماليته خلال السنوات الاخيرة. مئات الاف الشباب المتجولين في الفضاء العربي والاسرائيلي يعانون من تهميش سياسي بالإضافة الى البطالة والفقر.
يفضل الشباب العربي دولة فلسطينية اسرائيلية واحدة على حل الدولتين. كما يفضل الشاب العربي سياسيا واقتصاديا دولة ثنائية القومية من البحر الى النهر. من الصعب ان يتفهم الانسان العادي الثمن السياسي المطلوب من الشاب العربي أن يدفعه ليقبل مكانة أقلية قومية في اسرائيل. قبول مكانة الاقلية هو تنازل مصيري من قبل المجتمع العربي وهؤلاء الشباب بالذات. إذ يطلب منهم أن يتنازلوا عن الانتماء للشعب الفلسطيني، وللمنطقة العربية والاسلامية ليتحولوا الى أقلية في دولة قومية يهودية تعلن انها ستميز ضدهم بسبب إنتمائهم القومي.
يتقبل غالبية أفراد المجتمع الفلسطيني في اسرائيل بتردد حل إنهاء الاحتلال واقامة دولة فلسطينية الى جانب دولة اسرائيل، ولكن اصرار حكومات اسرائيل والمستوطنين السيطرة على دولة من البحر الى النهر يقوي التيار الذي يفهم ان حل الدولتين أصبح مستحيلا وتمت تصفيته عملياً. التنازل الشخصي والجماعي عن حل الدولة الواحدة ما زال ممكنا في حال بلورة تصور سياسي واقتصادي معقول. رؤية جديدة، تتطلع اليها الاقلية العربية الفلسطينية في اسرائيل ليست تحد للحكومة الاسرائيلية، بل هي تحدي امام القيادة العربية والفلسطينية.
لقد قامت مجموعة من المؤسسات والباحثين قبل حوالي عشر سنوات ببلورة تصور جماعي مشترك حاولت طرحه على الجماهير العربية كمشروع جماعي، وتوقف الحوار حول هذ التصور بسبب الازمة بين التيارات الاسلامية والقومية. ويؤدي هذا الشرخ الى ازمة في لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية والتي رفضت مناقشة وثيقة التصور الجماعي.
يتطلب مسار بلورة تصور جماعي جديد للمجتمع الفلسطيني طرح جديد للحل السياسي ولكن عليه ان يجابه التحديات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة التي ستساهم في تغيير انماط التعليم والعمل والحياة الاجتماعية والثقافية وفي العلاقات الداخلية للمجتمع العربي وعلاقته مع المجتمع اليهودي. لا يمكن ان يكتفي مجتمع بتصور سياسي في حين يعاني أفراده من بطالة بين الشباب وعنف يجتاح كافة اطرافه وفقر مدقع في شرائح مركزية. المجتمع العربي بحاجة الى تغيير اجتماعي، ثقافي واقتصادي عميق ومن الطبيعي ان يأتي هذا التغيير من خلال التغيير السياسي.
من المهم التذكير ان طرح “الدولتين للشعبين” قد صدر عن الجبهة الديمقراطية وهي قوة سياسية مركزية تمثل جماهير واسعة داخل الاقلية العربية الفلسطينية في الداخل، وقد تحول هذا الطرح الى موقف دولي مقبول على كافة دول العالم لحل الازمة في المنطقة. بلورة رؤية جديدة للمجتمع الفلسطيني من شأنه ان يؤثر على الشعبين. المكانة الخاصة في المنطقة العربية والاسرائيلية تمنح هذا المجتمع قدرة على بلورة تصور قد يخرج المنطقة من أزمتها.
رؤية من هذا النوع لا يمكن ان تكون منغلقة على نفسها. رؤية مبلورة من قبل اقلية تعيش وتفهم متطلبات الشعوب وتتواصل في اللغتين ستكون أقوى من رؤية الفصل القومي والاحتلال والعنصرية التي تم نشرها في العقود الثلاث الاخيرة في المنطقة الفلسطينية والاسرائيلية. إن فشل اوسلو، وفشل الاحتلال وفشل الجدار الفاصل العنصري الذي اقيم في المناطق المحتلة والقدس وغزة سوف ينجحوا في إقناع الاغلبية بأهمية تصور الحياة المشتركة والاعتراف المتبادل في الحقوق الدينية والثقافية والسياسية لكل الاطراف. رؤية الحياة المشتركة ستوفر فرص التضامن المدني وتتحدى الهيمنة العسكرية، والتمييز والفصل.
إنَّ من شأن مثل هذه الرؤية المبلورة داخل المجتمع الفلسطيني في اسرائيل أن تشكِّل رؤية لجميع سكّان الدولة وللأغلبية البرلمانية المستقبلية فيها. إنَّ دولة يدفع فيها المواطنون الملايين على شقّة للسكن، ويسود التوتر بين الشرقي والاشكنازي والروسي والاثيوبي والمتديّن والعربي، هي دولة في أمسّ الحاجة إلى رؤية جديدة. بعد سنوات من العنف وإراقة الدماء، آن الاوان ان نطرح تصورا جديدا يتقبل فيه اليهود ان العرب هم جزء من هذه المنطقة العربية وان الحياة المشتركة ضرورية للطرفين.
- جعفر فرح هو مدير مركز مساواة لحقوق المواطنين العرب
[1] ملاحظة: في نهاية سنة 2014، أقرّ مجلس التعليم العالي تمويل المؤسسة الأكاديمية في الناصرة بمرافقة أكاديمية من قبل جامعة حيفا.