تنقسم الصحافة العربية في إسرائيل حسب الناشرين إلى ثلاثة أنواع: الأول – صحف يصدرها مكتب للدعاية والنشر لأهداف تجارية؛ الثاني – صُحف تصدرها أطراف سياسية وحزبية؛ والثالث – وسيط تقني تطوّر كمنظمة اقتصادية. إلاّ أن هذا المبنى الثلاثي الأضلاع لا يترجم فوريًا إلى مضامين وُمنتجات إعلامية مختلفة. صحيح أن هناك بعض الاختلافات بين الصحافة الحزبية والتجارية، لكنها تظلّ اختلافات ثانوية، ومن العسير أحيانًا ملاحظتها، وذلك لأن الصحافة الناطقة باللغة العربية تعمل وفق الأنماط ذاتها وتُنتج الخطاب ذاته تقريبًا. زيادة على ذلك، سعت هذه الصحافة دومًا إلى تكريس الواقع وامتنعت عن الخروج عليه أو تقويضه أو تحدّيه.
إن التحوّلات الهائلة التي طرأت على حقل الصحافة بصورة عامة لم تستثنِ الصحافة العربية في إسرائيل. ومن بين جملة ما طرأ عليها، يُمكننا الإشارة إلى الاستسلام لإغراء المواد الترفيهية وتلك الخاصة بالاستهلاك. تخلّت هذه الصحافة عن التقرير الصحفي باستثناء حالات استثنائية تعتمد الحسابات السياسية أو الاقتصادية الواضحة. إن غالبية المواد المنشورة تصل من الطرف المعني بالنشر وليس بمبادرة الصحيفة نفسها (كل ما يصل الصحيفة عبر الفاكس ينشر كما هو ـ تقريبا). تمتلئ الصحف بعلاقات عامة ونادرًا ما نقرأ مواد إخبارية أو مواد معرفية حقيقية تعني الجمهور. وتمتلئ الصحافة المطبوعة، كما هو حال الصحافة الإلكترونية، بمواد مقتبسة عن وسائل إعلامية أخرى، غالبًا من مصادر عربية في البلاد المحيطة أو مترجمة عن الصحافة العبرية.
والأسوأ من هذا وذاك أن مضاعفة عدد وسائل الإعلام العربية عدة مرات وانتعاش الصحافة الإلكترونية لم يأتيا بالضرورة بتعدّدية في الرأي أو بنهضة فكرية. إذ إن تعدّد الوسائل لم يترجم إلى تعدّد بالآراء أو بالتوجّهات، أي هنالك غياب بكل ما يتعلّق بحرية التعبير حول الشؤون الداخلية التي تتصل بالمجتمع العربي. عدد الكتّاب الذين ترفض وسائل الإعلام المرة تلو الأخرى نشر مقالاتهم وآرائهم ووجهات نظرهم النقدية في ازدياد مستمرّ. صحيح إن الصحافة السياسية لا تزال تتبنّى أي رأي يسعى إلى القذف بالخصم، وتشجّع الصحافة التجارية توجيه النقد باتجاه الصحف المنافسة، ولكن جميع ذلك لا يستند إلى حرية التعبير ولا إلى فكرة توفير سوق حرة لتبادل الآراء والتوجّهات. وكذلك، فإن مواقع الإنترنت العربية لا تُنتج حيّزًا لنشر مقالات الرأي، أو كما نوّه لي أحد محرّري الصحف: “لا حاجة لي بمقالات، يكفي المقال الذي أكتبه أنا”! أي لا مكان لآراء مستقلة حرة وغير منحازة.
وهنالك ظاهرة أخرى مشتركة لغالبية الصحف ألا وهي غياب الانسجام بين الاصطلاحات المعتمدة وبين واقع الحال. فإن المفردات والتعابير وتركيبة الجمل بعيدة جدًا عن توصيف الواقع. إن المبالغة هي السمة السائدة فيها ـ من غير الواضح إذ كان مصدر ذلك هو الحاجة للفت الانتباه أم غياب القدرة الحقيقة لاعتماد منهج مغاير ولغة لصيقة للواقع. أما النتيجة فهي سلّة كبيرة من الاصطلاحات والتعابير غير الدقيقة والمضلّلة. ويتجلّى ذلك بصورة واضحة خاصة في تغطية القضايا التي تقع في مساحة العلاقة بين الدولة والأقلية العربية الفلسطينية، أو تلك المرتبطة بممارسات الجيش الإسرائيلي في المناطق المحتلة. على صعيد اللغة، يمكن ملاحظة أن الصحافة العربية تميل بكثرة إلى استعمال الخطاب العاطفي (ونرصد الظاهرة نفسها في الصحافة العبرية وغيرها كذلك)، حتى يصل الحال أحيانًا إلى تمثيل الشخص العربي على أنه شخص غضوب يميل إلى الغضب المزمن الأقرب إلى حافّة اليأس. تتمتّع هذه الصحافة بدرجة كبيرة من التباكي وتصوير الذات على أنها ضحية، السمّة التي تُنتج خطابًا عقيما بكل ما يتعلّق بالشؤون الجماعية الوجودية. إن مثل هذه الصحافة تُنتج مجتمعًا عربيًا يتمتّع بصورة ذاتية سلبية وهوية مضطربة إن لم تكن دونية.
تخلو الصحافة العربية، بما في ذلك الصحافة الحزبية، في السنوات الأخيرة من الكتابة الفكرية والأكاديمية أو شبه الأكاديمية. فبينما كانت صحيفة “الاتحاد” على مدار عشرات السنين منارة صحافية وفكرية وأدبية وثقافية تمكّن قراءها وتؤثّر على أفكارهم وتصمم أراءهم، تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مرجعية بائسة عديمة الجدوى حتى في عيون أعضاء الحزب الشيوعي وأنصاره. هذا فيما يتردّد المثقفون والمُبدعون النوعيون من نشر مقالاتهم في الصحافة الخاضعة بالكامل لموازين السوق والتي تغيب عنها الرؤى. ربما تنجح هذه القوى المشتغلة بالإعلام من زاوية التجارة وبصورة جيدة في تسويق مساحات معينة للدعاية والإعلان على صفحاتها، ولكنها تفتقر للكفاءات الملائمة لإصدار صحف معقولة على صعيد المضامين والشكل والمهنية، وعلى صعيد القوى العاملة فيها، بالرغم من تخرّج مئات الشباب والشابات من أقسام الإعلام في مؤسّسات التعليم العالي في السنوات الأخيرة. فقلّما نراهم في المؤسسات الإعلامية!
عملتُ في العقود الثلاثة الأخيرة نحو 15 سنة بصورة متقطّعة في أربعة وسائل إعلامية عربية، كتبت ونشرت في عدد كبير من الصحف والمواقع الإلكترونية، وأقمت علاقات قريبة مع عدد من الناشرين والمحرّرين. وللأسف الشديد، عليّ الاعتراف بأنني لم أجد بينهم مهنيّين ملتزمين بأخلاقيات مهنية أو بأفكار تقدمية، ولم أعثر على رؤية صحفية متنوّرة. أستثني من هذا الحُكم طيب الذكر إميل حبيبي الذي أشرف على مشروع تحويل الاتحاد من صحيفة نصف أسبوعية الى صحيفة يومية في العام 1983. تمتنع الصحافة العربية في البلاد، بوصفها صحافة مجنّدة ومليئة بالتَّملق للمجتمع العربي، عن تناول قضايا المجتمع الحقيقية ومُكاشفة المجتمع بعيوبه على الملأ. وها أنا ذا أنشر مثالب الصحافة العربية وقصوراتها على قارعة الطريق وهو ما تأبى هذه الصحف رؤيته.
- مرزوق الحلبي، صحفي، وكاتب، وشاعر وناقد أدبي. مركّز مجموعة البحث “اللغة العربية في إسرائيل: لغة، وقوة، وخطاب” ومركّز مشروع أنطولوجيا الشعر الشبابي في معهد فان لير في القدس.