نشهد في السنوات الأخيرة تعزيزًا للعلاقة بين المواطنة والولاء في الخطاب الاجتماعي والسياسي في إسرائيل. ويتجلّى ذلك على الصعيد القضائي في سلسلة مشاريع القوانين التي تسعى إلى فرض علاقة تشترط التمتّع بالحقوق التي تنطوي عليها المواطنة تقليديًا بالولاء للدولة. ينظر المفهوم القائم في صلب هذه القوانين إلى المواطنة والولاء بوصفهما لبنتيْن تتأسّس عليهما منظومة تحكم العلاقة بين المواطن ودولته. حدّدت فاتحة ديباجة مشروع “قانون المواطنة (تعديل – تصريح بالولاء) لعام 2007″، على سبيل المثال، أنَّ “العلاقة بين المواطنة والولاء للدولة هي علاقة لا تنفصل”. وفق هذا المفهوم، فإنَّ مصطلح الولاء يعبّر عن العلاقة المطلوبة من المواطن في علاقته مع الدولة، أي واجباته نحوها، بينما يعبّر مصطلح المواطنة عن حقوق المواطن من الدولة، أي واجباتها نحوه.
لطالما سمعنا في الخطاب الجماهيري الادعاء بأنَّ المواطن مدين بالولاء للدولة التي يحمل جنسيتها، وغالبًا ما يتم النظر إلى هذا الادعاء بوصفه فرضية مفهومة ضمنيًا. وفي مقابل ذلك، فإنه لطالما كان النقاش حول فحوى هذا الولاء وطبيعته خافتًا جدًا. يتّضح من محاولة لتسليط الضوء على فحوى هذا الولاء بصورة تفصيلية، ذلك الولاء المفروض حصريًا على المواطنين – واجبات عينية مثل ما هو المسموح وما هو الممنوع – أنَّ واجبات كهذه غير متوفّرة تقريبًا. على سبيل المثال، يسري واجب الانصياع للقانون على جميع من يتواجد ضمن حدود الدولة وهو واجب لا يسري بصورة حصرية على المواطنين فقط. وكذلك، فإنَّ واجب المساهمة في رفاهية المجتمع ككل، والذي يتم التعبير عنه على سبيل المثال عبر دفع الضرائب، لا يسري بصورة حصرية على المواطنين فقط. وحتى المخالفات التي تظهر في قانون الجنايات تحت عنوان “خيانة”، والتي تشمل منعًا للمسّ بالمصالح الحيوية للدولة، هي مخالفات يمكن لكل إنسان أن يقترفها.[1] وكذلك لا يحدّ القانون الدولي حقّ الدول بفرض الواجبات المذكورة أعلاه على أفراد آخرين بمعزل عن جنسياتهم. إنَّ الواجب الوحيد الذي يُسمح للدول فرضه فعلاً على مواطنيها حصريًا هو واجب الخدمة العسكرية. وربما بفعل ذلك تحوّلت الخدمة العسكرية في إسرائيل بمفاهيم عديدة إلى “امتحان الولاء” المطلق.
بسبب أنَّ غالبية الواجبات التي يُنظر إليها في الخطاب الجماهيري بوصفها “واجبات الولاء” (باستثناء الخدمة العسكرية، كما ذكر آنفًا) غير مفروضة حصرًا على المواطنين، وإذا كان يُقصد بتعبير “واجبات الولاء” تلك الواجبات العينية التي تشير إلى ما هو مسموح وما هو ممنوع فإنه تعبير خاوٍ من أيّ مضمون. يشير التعبير “واجبات الولاء” بصورة خاصّة إلى التوقّع الاجتماعي بأن يشعر الإنسان بعلاقة عاطفية-نفسية للدولة التي يحمل جنسيتها. إنَّ المطالبة بالتصريح عن الولاء للدولة في ظروف مختلفة، وهي إحدى المطالبات المركزية في “خطاب المواطنة”، هي ترجمة هذا التوقّع إلى ممارسة فعلية. نظريًا، ينبغي على التصريحات المختلفة عن الولاء أن تشير إلى واجبات الولاء المنعزلة عن التصريح بها. وعمليًا، في ظلّ خواء واجب الولاء للدولة من المضمون، يتحوّل واجب التصريح ذاته إلى واجب الولاء المركزي. وعليه، فإنَّ التصريح بالولاء، الذي يُنظر إليه بوصفه تعبيرًا عن علاقة عاطفية-نفسية للدولة، يندمج مع واجب الولاء.
بمعزل عن المسّ الذي ينطوي عليه اشتراط الحقوق بالواجبات بصورة عامة، واشتراط الحقوق بالواجب الذي تقوم في صلبه مشاعر وأفكار الإنسان بصورة خاصة، فإنَّ التوقّع لعلاقة عاطفية-نفسية باتجاه الدولة نابعة من المواطنة لا غير تستند إلى أنموذج غير موجود للعلاقة بين المواطن والدولة، ولهذا يعتبر هذا الاشتراط خاطئًا. لا تشمل العلاقة بين المواطن والدولة منظومة العلاقة بين المواطن ودولته فحسب، وهي قائمة على منظومة ثنائية تموضع المواطن في مقابل الدولة، بل تشمل كذلك منظومة من العلاقات ثلاثية الأضلع تربط بين المواطن والمجتمع والدولة. لا تقف المواطنة والولاء فحسب في أساس هذه المنظومة، بل كذلك التكافل الاجتماعي والضمان المتبادل اللذان يجسّدان بطبيعتهما العنصر العاطفي-النفسي الذي يعتبر جزءًا من تعبير الولاء. تنبع الشرعية التي تقف خلف توقّع الولاء للدولة بصورة كبيرة من هذا التكافل.
تعكس المبادرات التشريعية المطالبة بتصريح ولاء لإسرائيل بوصفها دولة “يهودية وديمقراطية” مفهومًا يؤسِّس التكافل الاجتماعي في إسرائيل على قاعدة هوية الشعب اليهودي.[2] وقد اتّخذ هذا المفهوم مؤخرًا تعبيرًا إضافيًا في قرار المحكمة العليا حين رفضت المحكمة طلب الملتمسين تسجيلهم كـ”إسرائيليّين” في خانة القومية في سجّل السكّان.[3] استنادًا إلى السابقة القضائية في القضية المعروفة بقضية تمارين، عادت المحكمة وأكّدت على الفصل بين المواطنة، التي “تستحدث علاقة قانونية دائمة بين الفرد ودولته”، وبين القومية التي تقوم وفق المحكمة على “مشاعر الوحدة القائمة بين أعضاء المجموعة القومية والتبعية المتبادلة والمسؤولية الجماعية، مثل الخصال الأخلاقية والإرث الثقافي الذي يُميّز المجموعة القومية عن المجموعات القومية الأخرى”. وعليه، فقد أكدّت المحكمة، من جانب واحد، أنَّ الشعب هو مجموعة التماثل للفرد، ومن جانب آخر أنه لا وجود لشعب إسرائيلي. إنَّ المفهوم الذي يرى بالمواطنة بصورة أساسية مكانة قانونية، بينما يرى بالشعب مجموعة الانتماء والتماثل، ويرفض الادعاء بوجود شعب إسرائيلي، فإنه بذلك يقصي من لا ينتمي إلى الشعب اليهودي من بين مجموعات التكافل الاجتماعي في إسرائيل. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى قرار القاضي ملتسر الذي ينصّ على أنَّ “اليهودية الدستورية” للدولة تلغي الإمكانية القانونية للاعتراف بـ”الشعب الإسرائيلي”. يذهب هذا الموقف بعيدًا إلى ما بعد مسألة أنَّ في حقيقة الأمر لا وجود لشعب إسرائيلي، وذلك لأنه يستبق الأمور وينصّ على ما سيجري في المستقبل، إذ إنه وفق هذا الموقف فإنه إذا ثبت في المستقبل وجود مثل هذا الشعب لن يكون بالإمكان الاعتراف به. يقوّض هذا الموقف الآمال لاستحداث قاعدة شاملة للتكافل الاجتماعي في إسرائيل ويُبقي منظومة ثالوث العلاقات مواطن-مجتمع-دولة ذا صلة لمواطني إسرائيل اليهود فقط.
إنَّ إقصاء مواطني إسرائيل العرب من مجموعة التكافل الاجتماعي يقوّض أساس التوقّع الاجتماعي المشروع بأن يشعر هؤلاء المواطنين أو يعبّروا عن ولائهم للدولة. بالرغم من ذلك، فإنَّ المطالبة بالتعبير عن الولاء للدولة في الواقع الاجتماعي والسياسي في إسرائيل موجّهة دومًا باتجاه مواطني الدولة العرب بالذات. هنالك شكوك ما إذا كانت “امتحانات الولاء” هذه التي تتجّلى في المطالبة بالتصريح عن الولاء للدولة قد تساعد في حماية المصالح الحيوية للدولة أو في تعزيز مشاعر الولاء لها. في مقابل ذلك، تعتبر مثل هذه الامتحانات قاعدة من شأنها إضفاء الشرعية على التمييز ضدّ المواطنين العرب في إسرائيل وتعزيز الإقصاء على الصعيدين الفردي والجماعي. أما على الصعيد الفردي، فتتيح الحقوق المشروطة بالتعبير عن الولاء الفرصة أمام سلب الحقوق، والتي تبدو كمسّ بالمساواة، وذلك استنادًا إلى ادعاء مفاده أنَّ هذا المسّ لا يقوم على تمييز محرّم، مثل التمييز المؤسَّس على القومية والعرق والدين، وإنما هو نابع من الاختيار الذاتي للفرد بعدم الإيفاء بواجبه، ذلك الواجب المعروض بوصفه واجبًا مشروعًا. أما على الصعيد الجماعي، فتؤدّي المساواة بين الدولة وبين الشعب اليهودي إلى وضعية يبدو فيها عدم التماثل مع الروايات القومية أو مع الروايات البديلة أو طرح روايات معارضة لهذه الروايات القومية وكأنها تعبيرات لعدم ولاء للدولة ولهذا فهي مرفوضة. يستخدم تعبير الولاء على هذين الصعيدين لإضفاء الشرعية على سلب الحقوق وفرض القيود عبر عرض هذا المسّ بوصفه لا يستند إلى “تمييز محرَّم” وإنما إلى سلوك واختيار الفرد.
- د. تمار هوستوبسكي-برندس، كلية الحقوق، هكريا هأكديميت أونو
[1] يشير تعبير “خيانة” إلى جملة من المخالفات المشمولة في الفصل 7 الفقرة ب لقانون الجنايات. وتشمل هذه المخالفات المسّ بسيادة الدولة وتهديد كونها وحدة سياسية واحدة ( (المادة 97)، والتسبّب بنشوب حرب (المادة 98)، والتعاون مع العدو في وقت الحرب (المادة 99)، والتعبير عن النيّة للخيانة (المادة 100)، والانضمام لقوات العدو (المادة 101)، ومساندة أسرى الحرب (المادة 102)، واعتماد الدعاية الانهزامية (المادة 103). إنَّ المخالفة الوحيدة من بين جملة هذه المخالفات التي تشير في تعريفها إلى المخالف بوصفه مواطنًا إسرائيليًا أو “إنسانًا آخر ملزم بالولاء لدولة إسرائيل” هي مخالفة “الانضمام لقوات العدو”. أما مخالفة “الخيانة” الأخرى فيمكن لكل إنسان يخضع للقانون الجنائي الإسرائيلي اقترافها.
[2] تعتبر مشاريع قانون أساس: القومية، بصياغاتها المختلفة، بدرجة كبيرة استمرارًا طبيعيًا لهذا التوجّه.
[3] التماس مدني 8573/08، عوزي ـورنان ضد وزارة الداخلية.