إن العملية التاريخية الساعية إلى إحلال السلام الإسرائيلي الفلسطيني والإسرائيلي العربي تستوجب التخلّص من الآراء النمطية والتشوّهات التاريخية واكتشاف الإنسان القائم في الجهة المقابلة وفهم الطموحات الإنسانية للطرف الآخر. وفي هذا الإطار، هنالك ضرورة لاستحداث توجّه جديد للتعامل مع موضوع المحرقة النازية في الطرف العربي وكذلك في الطرف اليهودي. (سالم جبران)[1]
يعتبر الإعلام مجالاً مركزيًا لنشر وإعادة إنتاج دلالات ثقافية وأنماط اجتماعية، ولهذا فإنه يعكس مفاهيم ومواقف وقيم معينة. وتعتبر الصحافة العربية في إسرائيل أداة لتشكيل صورة المجتمع العربي الفلسطيني في واقع يقوم على هويتين متباينتين: القومية والمدنية. تقوم هذه الصحافة بوظيفة مركزية على صعيد فحص المعضلات الخاصة بالهوية: إن التوجّهات المتقابلة – فلسطنة من جانب واحد وأسرلة من جانب آخر – قد اضطرت الصحافة العربية في إسرائيل للتعامل مع صراع نجم بصورة كبيرة بسبب تعلّقها بالموارد المالية الحيوية المتوفّرة في المجتمع اليهودي في إسرائيل. تتضح هذه المعضلات في طريقة تعريف الصحافة الفلسطينية في إسرائيل هويتها والاصطلاحات التي تعتمدها في تعريف الهوية الجماعية.
وعليه، يقوم الإعلام بدور محوري في تشكيل الذاكرة، وتعتبر وسائل الإعلام الإخبارية منبرًا للتشكيل الثقافي، وتقوم بتأبيد وتشكيل الذاكرات التي تعكس الذاكرات القومية الجماعية المشتركة في حياة الأمة. يمكن فحص ذاكرة المحرقة النازية في إسرائيل والخطاب العربي حولها عبر النظرية الثقافية لدراسة الإعلام. تتكشّف المنظومات الإيديولوجية عبر النشاط الصحافي، ومن هنا فإن الإعلام بصورة عامة والصحافة بصورة خاصة يقوم بتشييد وتشكيل الروايات القومية داخل جماعة متخيلة تجمع بين أفرادها أواصر المصير المشترك. في أعقاب تطوّر وسائل الإعلام الإلكترونية في القرن العشرين، تعزّز الوعي بشأن الخصوصية البنائية للذاكرة الجماعية والوعي بحضورها وضعف تأثير المؤسّسات الحكومية على صعيد تشكيلها وصيانتها. إن هذه العملية، التي يطلق عليها تعبير “تحويل الذاكرة إلى ذاكرة إلكترونية” (electronification of memory)، لم تغيّر طريقة تذكّر الأشخاص فحسب بل غيّرت شكل التعامل مع الذاكرة أيضًا. وعليه، يُنظر إلى الإعلام بوصفه مُشكّلاً لجدول أعمال الذاكرة الجماعية.
إن اختيار الصحافة العربية إما التأكيد على نقاش دار حول المحرقة النازية أو تجاهله مرتبط هو الآخر بسياقات قومية وثقافية. بغية تناول دور المحرقة النازية في تشكيل الذاكرة الجماعية للمجتمع العربي في إسرائيل يمكن استخدام تعبير رولان بارت “التجنّس – naturalization”.[2] يدل هذا التشكيل أو غيابه على التوجّه الأيديولوجي للصحافة العربية لهذا الموضوع الحسّاس. لذلك فإن دلالات النصوص الصحافية تتشكّل عبر استخدام منظومات من التمثيلات الرمزية التي تكوِّن الخطاب الثقافي الإعلامي. تُبحَث تشكيلات ودلالات تأطير المحرقة النازية من خلال توجّهيْن مركزيّيْن: التوجّه الروائي، والذي يتشكّل انطلاقًا من وجهة نظر ثقافية أو ذاتية، والتوجّه التشكيلي البنائي (constructivist) والذي يقوم على أطروحة مفادها أن المعلومات تعتبر نتاجًا للتشكيل البشري وليس بالضرورة انعكاسًا لواقع “موضوعي” يتم الكشف عنه.
تظهر بعض الأسئلة المركزية عند مناقشة هذا الموضوع. على سبيل المثال، كيف يقوم الإعلام العربي الإسرائيلي بتعريف المحرقة النازية؟ ومتى وكيف تروي روايتها؟ لمَن تُمنح السلطة والشرعية لسرد رواية المحرقة النازية في هذه الصحافة؟ ما هي مضامين وخصائص هذه الرواية؟ وما هي الدلالات الثقافية الرمزية الناجمة عن انتقاء الاصطلاحات المختلفة؟ يمكن فحص هذه الأسئلة عبر اعتماد اصطلاحات مركزية مثل الذاكرة الجماعية، والتي تعتبر نتاجًا لممارسات ثقافية تعبّر عن ميزان قوى في المجتمع، ومن جملة الأمور العديدة فإن هذه الذاكرة تأخذ طريقها عبر نقاش ثقافي حيث تتنافس فيه روايات مختلفة على مكانتها في التاريخ. تعتبر الذاكرة الجماعية سردية بطبيعتها وتتجلّى على صورة رواية. إن من شأن بلورة الماضي على شكل رواية إضفاء الشرعية على ممارسات الماضي وتعزيز تلك المعتمدة في الوقت الحاضر. في غمار عملية تشكيل الرواية، يستخدم رواة الذاكرة الجماعية بمصادر تاريخية يسعون من خلال ذلك إلى الكشف عن الماضي وتدريسه للاستفادة منه في الوقت الحاضر. لذلك، فإن الاستناد على مصادر تاريخية يعتبر انتقائيًا وإبداعيًا، وبهذه الطريقة تطمس الذاكرة الجماعية الخط الفاصل بين الحقيقة وبين الخيال. وعلى نحو مشابه، تستخدم فئات اجتماعية تخليد ماضيها لأهداف مختلفة. إن النظر إلى الصحافة العربية الفلسطينية في إسرائيل بوصفها أداة لتشكيل الهوية يصبح أمرًا بالغ الأهمية لفهم الخلفية التاريخية لعملية تطوّرها.
لا يمكن عبر هذه المقالة القصيرة بالطبع عرض جميع أوجه هذا الموضوع، لذلك فقد اخترت التوقّف عند حادثة واحدة خاصة بموضوع المحرقة النازية تناولتها جميع الصحف العربية في البلاد ألاَ وهي قضية سفر محمّد بركة النائب الجبهاوي الشيوعي في الكنيست الإسرائيلية إلى بولندا في سنة 2010. أثار انضمام النائب بركة إلى هذه البعثة خلافات عديدة بين أوساط الجمهور اليهودي والعربي على حدّ سواء. وأقول في هذا الشأن إن ردود الأفعال المتناقضة حول هذا الانضمام قد أدّت إلى إخراج الموضوع عن سياقه الإسرائيلي المحلّي وموضعته ضمن أسئلة أوسع تتعلّق بدلالات المحرقة النازية وتمثيلها عبر اصطلاحات تنطوي على دروس عالمية مستفادة. وقد تناول الإعلام هذه الحادثة بصورة واسعة وأعقبه نقاش حادّ حول علاقة العرب بالمحرقة النازية وتوجّهها الأمثل للمحرقة وتمثيلاتها في المجتمع الإسرائيلي بصورة عامة وفي الصحافة بصورة خاصة. نشر موقع بانيت التابع لصحيفة “بانوراما” في 14 كانون الثاني 2010 مقالة لسميح القاسم حول زيارة محمّد بركة إلى معسكر الإبادة أوشفيتس: “على بركة الله”،[3] وكذلك نشر موقع صحيفة الاتحاد، الناطق الرسمي باسم الحزب الشيوعي، قولاً مماثلاً لسميح القاسم: “على بركة الله يا محمّد بركة […] إن العربي ‘الحقيقي’ الصادق والأصيل لا ينكر وقوع محرقة لليهود”. وفي المقابل، علت أصوات دعت إلى الاحتجاج على زيارة النائب العربي إلى معسكر الإبادة أوشفيتس وعرّفت بعضها هذه الزيارة بوصفها تعاونًا صريحًا مع أجهزة الدعاية السياسية الإسرائيلية. وجاء في بعض الصحف أن على محمّد بركة أن يتذكّر وأن لا ينسى بيته وماضيه الشخصي حين يوافق على زيارة إلى أحد أكبر التمثيلات للمحرقة النازية المفزعة أوشفيتس، تلك التمثيلات التي تهدف إلى التماثل مع ماضي الشعب اليهودي التاريخي.
بغية فهم شكل سرد رواية المحرقة النازية، هنالك حاجة إلى التنبّه إلى بعض المحاور الزمنية الرئيسة: الإحياء الإسرائيلي لذكرى المحرقة والأحداث المرافقة لها كما تروى في وسائل الإعلام المحلية والإحياء العالمي لذكرى المحرقة (27 كانون الثاني)؛ تناول قضية المحرقة في منتديات دولية في سياق أحداث تاريخية والصراع الإسرائيلي الفلسطيني. على سبيل المثال، تناول نوّاب في الكنيست والقيادات العربية (مثل خطابات رئيس السلطة الوطنية محمود عباس في الأمم المتحدة)؛ تناول الصحف العربية في إسرائيل حيثيات زيارة نوّاب عرب آخرين في الكنيست ورجال دين مسلمين إلى معسكر الإبادة أوشفيتس في بولندا. إضافة إلى ذلك، هناك ضرورة إلى فحص سياقات المحرقة والنكبة بالتوازي، كما تتجلّى في تصريحات شخصيات عامة وأدباء في الكنيست وعبر وسائل الإعلام. على سبيل المثال، تناول النائب أحد الطيبي في خطاب خاص في الكنيست بشأن أهمية التذكّر والتذكير بالمحرقة وفي ذات الوقت عدم نسيان نضال الشعب الفلسطيني وعدم تجاهله، وجاء فيه: “أرفض أن أكون ضحية للضحية”.[4] وكذلك في جميع هذه الحالات، فقد كانت الآراء متباينة ومتعارضة.
* המאמר מבוסס על עבודת מחקר לתואר מ”א הנכתבת בימים אלו באוניברסיטת חיפה בחוג לתקשורת בהדרכת ד”ר אורן מאיירס, אוניברסיטת חיפה, ופרופ’ מוסטפא כבהא, האוניברסיטה הפתוחה.
- أصفهان بهلول هي محاضرة وباحثة في مجال الإعلام
[1] مقتبس عند: يئير أورن، يهود وعرب أمام المرآة والآخر، تل أبيب: رسلينغ، 2010 [بالعبرية]. سالم جبران (1941 – 2011) كان ناشط لسنوات طويلة في مجال المحاولة لتشكيل طرق لتدريس المحرقة النازية لليهود والعرب سوية.
[2] رولان بارت، “خطابية الصورة”، تمار ليبس وميري طلمون (محرّرتان)، الإعلام بوصفه ثقافة: كتاب تدريس، المجلد 1، تل أبيب: الجامعة المفتوحة، 2003، ص 336-348. [بالعبرية]
[3] سميح القاسم، “على بركة الله يا محمّد بركة”، موقع بانيت، 14 كانون الثاني 2010: http://www.panet.co.il/online/articles/63/68/S-260741,63,68.html
[4] חדשות 2, 2010. “מה טיבי חושב על יום השואה?” חדשות 2, 29.1.2010,
http://www.mako.co.il/news-military/politics/Article-93018ab427b7621004.htm