“الطبقة الوسطى” ـ هو مصطلح يدور خلاف حول تعريفه وترسيم حدوده وثمة ضبابية تكتنف استخدامه ودلالاته المختلفة. الاستخدام الشائع له هو بمصطلحات اقتصادية ـ إحصائية تخضع للقياس حسب المداخيل، وأقل منها بكثير بكونه كيانية اجتماعية تتمتع بحضور ثقافي وسياسي مستقلّ. بهذا المعنى، ليس ثمة خلاف حول تشكّل طبقة وسطى في المجتمع العربي في إسرائيل، يتراوح حجمها ما بين 23% و 28% من مجموع الاقتصادات المنزلية في المجتمع العربي، تِبعاً لطريقة الحساب المعتمدة.
لم تُجرَ، حتى الآن، دراسات كافية للسيرورات التي أفضت إلى نشوء الطبقة الوسطى العربية الجديدة في إسرائيل، وخصوصا ما يتصل منها بالسياق التاريخي الذي تشكلت في إطاره هذه الطبقة الوسطى في مجتمع قروي تقليدي، وبالإسقاطات الاجتماعية، الثقافية والسياسية المترتبة عن هذا التطور. هي سيرورة جدلية متواصلة لهيكلة وبناء مجتمع جديد.
قبل العام 1948، كان المجتمع العربي في البلاد ذا بُنية هرمية: مدن مركزية شكلت مراكز إدارية واقتصادية للبلدات القروية الزراعية وتركزت فيها الطبقة الوسطى والقيادات الاجتماعية، الثقافية والاقتصادية في ذلك المجتمع. العرب الذين بقوا في إسرائيل عقب انهيار المجتمع الفلسطيني وتفككه في 1948 شكلوا مجتمعا مقسماً ومشتتا، يفتقر إلى أية مجموعات نخبوية. كان هؤلاء السكان، في غالبيتهم الساحقة، مجموعات قروية، تقليدية ـ انتمائية، تتألف من حمائل وعشائر. كان معظم هؤلاء السكان (نحو 80%) يعملون في الزراعة وكان مستواهم التعليمي متدنيا جدًا.
حتى حرب 1967، ساهمت ثلاثة عناصر في إعادة بلورة حياة السكان العرب وأحدثت تغييرا في بُنيتهم الطبقية: سياسة الاحتواء التي انتهجتها السلطة مصحوبة بتقديم منافع وامتيازات؛ اتساع التعليم؛ واندماج قوة العمل العربية في الاقتصاد الإسرائيلي.
بعد حرب 1967، تطورت الطبقة الوسطى العربية الجديدة في ثلاثة مسارات: الاندماج في سوق العمل الإسرائيلي؛ تأسيس مصالح تجارية صغيرة ومتوسطة؛ واتساع الانخراط في التعليم الجامعي. كان المسار الأول هو المسار السائد والأكثر بروزا وهو الذي أتاح تحقيق النمو والتوسع في المسارين الآخرين. وقد تأثرت هذه السيرورات بتطورات سياسية واقتصادية حصلت على الصعيد الدولي، الإقليمي والمحلي. وشكّل رد فعل السكان العرب على هذه السيرورات قاعدة ومنطلقاً لإعادة هيكلة المجتمع العربي، والتي يمثل نشوء الطبقة الوسطى الجديدة أحد أبرز سماتها.
منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين، أصبح جزء كبير من العمال العرب عمالا مهنيين محترفين وعاملين في قطاع الخدمات. انتقل هؤلاء إلى العمل في قطاعات تشغيلية تتطلب مهارات عالية، انخرطوا في مجالات عمل جديدة واستفادوا من التعاون الاقتصادي مع سكان المناطق (الفلسطينية). وبفعل النمو الاقتصادي الذي حصل في إسرائيل، أصبح كثيرون منهم مستقلين؛ دمج بعضهم ما بين العمل الأجير وبين العمل المستقِل فغدوا أصحاب مشاغل ومَعامِل صغيرة، بل غدا عدد قليل منهم أصحاب صناعات متوسطة.
منذ أواسط الثمانينات، وخلال التسعينات بشكل خاص، في أعقاب التغيرات البنيوية التي طرأت على الاقتصاد الإسرائيلي والتطورات السياسية التي رافقتها، توسعت الطبقة الوسطى العربية: الخصخصة، العولمة، فتح أسواق جديدة ولبرلة الاستيراد هيّأت فرصاً جديدة للمبادرين العرب، بل استطاع بعضهم تحصيل عقود للاستثمار في دول أجنبية. وقد تأثرت سيرورة إنشاء المصالح التجارية، إلى حد كبير، بالزيادة السكانية التي حصلت بين العرب وبالارتفاع في مستوى المعيشة وتطور الأنماط الاستهلاكية.
بالتوازي مع الاندماج في سوق العمل وإقامة المصالح التجارية المستقلة، حصل تطور كبير وسريع في مجال التعليم، أيضا، مما شكل عاملا هاما في اتساع الطبقة الوسطى الجديدة. وقد شهدت بداية السبعينات قفزة كبيرة في اتساع التعليم فوق الابتدائي وفي ارتفاع مستواه، ما أدى بالتالي إلى ازدياد عدد الطلاب العرب في الجامعات والكليات فوق الثانوية. ولعبت المدارس الأهلية، التابعة للطوائف المسيحية في الناصرة وحيفا، والتي انتهجت منحى نخبويا، دورا هاما جدا في هذه السيرورة، إلى جانب تأسيس الكليات الجديدة في المناطق النائية وتأسيس كليات عربية كبيرة ساهمت، جميعها، مساهمة لافتة، في زيادة عدد الطلاب والمتعلمين. وكان لفتح أبواب الجامعات الأردنية أمام الطلاب العرب مواطني إسرائيل، ابتداء من سنوات الألفين، أثر واضح تمثل في إحداث قفزة في عدد حملة الشهادات الجامعية، وخاصة في مجالات الطب والصيدلة. كما اتسعت، على نحو متسارع، ظاهرة التوجه لاستكمال التحصيل الأكاديمي في دول أوروبا الشرقية، في إيطاليا، ألمانيا وفي الولايات المتحدة.
كانت لجهاز التعليم وللدراسة الأكاديمية، إذن، مساهمة حاسمة في زيادة عدد حملة الشهادات الأكاديمية وفي تغيير التصنيف المهني لقوة العمل العربية ـ وهي السيرورة التي سرّعت وتيرة التحرك والانتقال نحو الطبقة الوسطى وساهمت في نشوئها وتطورها. وتزامنت مساهمة التعليم هذه مع تطور الخدمات المختلفة في داخل البلدات العربية، أيضًا.
في إطار سيرورة نشوء وتطور الطبقة الوسطى في المجتمع العربي، وكجزء منها، تشكلت وتبلورت نخب جديدة في هذا المجتمع. تطورت هذه النخب في مسارات مختلفة تعكس تمايزا اجتماعيا ـ اقتصاديا، ولذا فإن ثمة اختلافات أيضا في رؤاها وتوجهاتها القومية، الاثنية والدينية. تكتسي الخلافات الفكرية تعبيراً تنظيميا وحركياً: النتيجة الأبرز على صعيد المواقف والتنظيم السياسي تمثلت في إسباغ الشرعية على أي موقف سياسي وخلق واقع من التعددية السياسية غير المحدودة إطلاقا، تقريبًا.
لعبت النخب التي نشأت في هذا المجتمع دورًا هامًا في وضع الأهداف، في تصميم جدول الأعمال العام وـ بصورة أساسية ـ في ترسيم حدود العمل السياسي بين الجمهور العربي كله. وكان لهذه النخب تأثير، أيضا، على الثقافة العربية المميزة التي تبلورت في إسرائيل، والتي تختلف عن الثقافة الفلسطينية لكنها جزء منها في الوقت ذاته، بل نجحت في احتلال حيز لها في إطار الثقافة الشاملة في العالم العربي، التي تمتاز، بطبيعتها، بالتغاير وعدم التجانس.
تجسد التحول الأبرز الذي أحدثه نشوء النخب، كجزء من الطبقة الوسطى العربية، في الانتقال من استراتيجية البقاء إلى استراتيجية التأقلم مع الواقع الإسرائيلي والاندماج السياسي والاقتصادي في المجتمع الإسرائيلي، إلى جانب المطالبة بتميُّز جماعي، على نحو لا يحتمل التأويل. هذا التحول في الفكر السياسي وفي تبلور الهوية الفلسطينية هو إحدى الظواهر الأكثر أهمية في سيرورة تطور الجماهير العربية في إسرائيل. على مستوى العمل السياسي، شكّل تبني استراتيجية التأقلم انتقالا من السلبية إلى الفاعلية السياسية، بغية التأثير على الأحداث وبهدف ترسيخ مواطنة العرب والتأقلم مع الواقع. تعزز الانتقال إلى العمل السياسي الجماعي الفاعل حين أصبحت مصالحهم الطبقية شأناً للسياسة الحكومية. وقد أتيحت هذه كلها بفضل اتساع وتعاظم الطبقة الوسطى التي أصبح في مقدورها رصد موارد بشرية ومالية للعمل السياسي، المدني والاجتماعي وتصعيد المعركة على الأفكار السائدة في المجتمع.
تبنت النخب الثقافية والسياسية التي تمثل الطبقة الوسطى العربية، كما أسلفنا، خطابا في صلبه تسوية وتنظيم مكانة العرب كمجموعة قومية لها مصالح قومية في نطاق المنظومة السياسية والثقافية الإسرائيلية، وليس خارجها. وكان من شأن هذا الخطاب أنه أحدث انقلابا استراتيجيا: من التطلع إلى ترميم مكانة العرب والبقاء في إطار المبنى القائم، الذي بدا كأنه أصبح ثابتاً في أعقاب 1967، إلى المطالبة بتغيير هذا المبنى والمشاركة في تصميمه وبلورته وفي توزيع الموارد في إطاره.
حصل تطور إضافي آخر في الفكر السياسي لدى الفلسطينيين مواطني إسرائيل تمثل في التشديد على المصالح المحلية من غير بذل أي جهد للموازنة بينها وبين المصالح القومية “الخارجية”. إحدى النتائج الأبرز للتوافقات في القضايا المدنية / المواطَنية هي إقامة “القائمة المشتركة” من خلال توحيد القوائم العربية الأربع التي كانت ممثلة في الكنيست (الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، القائمة العربية الموحدة، التجمع الوطني الديمقراطي والحركة العربية للتغيير) وخوض الانتخابات للكنيست العشرين في العام 2015 بقائمة مشتركة.
تنبغي الإشارة هنا إلى أن التغيرات التي ورد ذكرها أعلاه كانت محدودة. فالمجتمع العربي في إسرائيل ما زال قرويا في أساسه، ومعظم قيادته المحلية لا تزال تقليدية، أو تعتمد مصادر تخويل تقليدية على الأقل. وعليه، فمن الطبيعي أن تكون التغيرات الاقتصادية هي التغيرات الأساسية التي حصلت فيه، إلى جانب تغيرات طفيفة في المجالين الاجتماعي والثقافي.
يمكن القول، تلخيصاً، إن الطبقة الوسطى العربية الجديدة في إسرائيل، والمؤلفة من أصحاب مهن أكاديمية، أصحاب مهن حرة، عاملين مهنيين مستقلين، مبادرين وسياسيين، على الصعيدين القطري والمحلي، تشكل القوة الأكثر تأثيراً في المجتمع العربي في إسرائيل والمسؤولة عن جزء كبير من التحولات العميقة التي شهدها هذا المجتمع خلال العقود الأخيرة. ونظرا لأنها نشأت في مجتمع قروي تقليدي، فإن مميزاتها الاجتماعية والثقافية تختلف عن مميزات طبقة وسطى مدينية، بل تختلف أيضا عن مميزات الطبقة الوسطى اليهودية في إسرائيل. وثمة لهذا تأثير عميق على سمات التفكير وعلى طرق التنظيم الاجتماعي والسياسي بين أبناء هذه المجموعة.
الطبقة الوسطى العربية الجديدة هي طبقة تكاملية وليست تصارعيّة: طبقة تكمن مصلحتها في الاندماج في المنظومة الإسرائيلية، لكنها تعمل حثيثاً من أجل تغيير قواعد اللعبة والعلاقات في الحيّزين المدني والسياسي.
بروفيسور عزيز حيدر أستاذ في جامعة القدس، زميل بحث كبير في معهد فان لير في القدس وفي معهد ترومان في الجامعة العبرية. كتابه عن نشوء الطبقة الوسطى العربية في إسرائيل سيصدر في العام 2019.