لا شكّ أنّه من المآسي الكبرى التي حلّت في الجسد الفلسطينيّ، وخاصة الجسد الثقافيّ، انه تفكّك ثم حاول أن يُشكّل نفسه منذ البداية على شاكلة جسد الدولة الوطنيّة الفتيّة المتمثِّلة بالجسد الرجوليّ الفتيّ والطاهر، مستخدمة في ذلك انعكاسات الأجساد الصهيونية المختلقة لتبرير أحقيتها في الأرض، وكذلك الدول الفتيّة والجديدة المحيطة التي انعتقت جديداً (وقتها) من الاستعمار الأجنبيّ، لتشكّل شخصيّة ثقافيّة أُحاديّة عسكريّة ورجوليّة تخدم مساعي تكوين الدولة الوطنية التي تلتها الديكتاتوريات العسكرية.
لم تستفد الثقافة الفلسطينيّة بقدر كبير من الجماليات الكامنة في فشل ( نكبة) الجسد الذكوري في إقامة كيان قمعيّ (وفق قناعتي) وعسكرة الوجود، بل أخذت تبادر لتقليد أو وضع مرآة أمام ذاتها وكأنها انعكاس أو غريم كولنيالي هو الآخر للرجل الأبيض القادم من الشمال لتحرير الأرض البكر من سذاجتها عبر لمساته السحرية\ الصارمة والواعية لذاتها في آن واحد. واستمر هذا الاتجاه في المحاكاة ليصل إلى أوجّه في نهاية الستينيات من القرن الماضي مع انطلاق “الثورة الفلسطينيّة”، حيث تمّت مأسَسَة الثقافة الفلسطينية (في الشتات على الأقل) وتجنيدها لخدمة البيروقراطيّة الثوريّة الناشئة، وهناك تعاظم تقديس الجسد الذكوريّ الوطنيّ الفتيّ (المتمثل بصورة الفدائيّ) في خدمة التوجّه الأحاديّ عبر البلاغة الجماليّة التي تأتي جاهزة من قبل المُؤسّسة. إنطلاقاً من تلك الفترة، واستعداداً لإعادة تشكيل الجسم الماديّ الوطنيّ، كان من الواجب اختراع أمور عِدّة في السينما والأدب والفنّ التشكيليّ، ومن أهمّ تلك الأمور، إعادة انتاج الجسد الذكوريّ (بالفعل وليس كفِكر). هذا الجسد الذي حُمّل مهمّة القيام بتأسيس الوطن العتيد ورافق ذلك أو توازى معه عدّة آليّات كما يوردها إدوارد سعيد في مقاله: “Invention, Memory and Place,” حيث يفصّل سعيد الآليات التي تتبعها السلطات ممثَّلة بهيئاتها الثقافيّة (منظمة التحرير الفلسطينيّة بهذه الحالة)، المباشرة أو غير المباشرة، في “اختراع ذاكرة جمعيّة”، و “اختراع رموز وطنيّة” و “اختراع التقاليد”، قد تكون موجودة في الواقع ولكن بأشكال مختلفة ومتنوِّعة وجدليّة، وذلك بغرض خلق شعب موحّد بقدر الإمكان يملك ذاكرة ووعيّ استيتيكي إنتقائيّ تمّت هندسته وِراثياً بغرض الاستعداد (مرّة أخرى) لتشكيل الوطن المؤجّل، الذي لا يريد أن يتشكّل بهذا الشكل وذلك بالصدفة أو بالقوة. يصل الوعيّ الاستيتيكي هذا لقمة عبثيته بعد الانتفاضة الأولى، وخاصّة بعد استيراد سلطة أوسلو من الخارج، والتي جاءت على شكل استعراض طويل وكرنفاليّ للرموز المفتعلة، أكثر من كونها سلطة فعليّة ذات مضمون. ومن غير المستغرب إطلاقاً أن انتشرت في تلك الفترة بالذات ظواهر استيتيكية ضمن آلية “اختراع التقاليد” في محاولة يائسة لتأسيس “وطن افتراضيّ” حيث اكتشف الجميع التطريز الفلسطينيّ الأحاديّ والجامع مع أن كلّ منطقة كانت قد تميّزت في الماضي بأشكال تطريز مختلفة. كما طغت موتيفات الكوفيّة البيضاء والسوداء على غيرها من الرموز الجامعة، على الرغم من أن الكوفيّة البيضاء هي التي كانت سائدة لدى غالبيّة الشعب الفلسطيني قبل النكبة، خاصة في أوساط الفئات المنتقلة من الحياة الزراعية التقليدية نحو اقتصاد المدينة الخدماتي .. إضافة لإبراز شكل واحد من رقصة الدبكة والتي تُمَيّز مناطق رام الله وذلك على حساب أشكال أخرى في باقي مناطق فلسطين التاريخية.
צילום מסך 2016.05.23 ב.09.44.21
مع دخول السلطة لغزّة وأريحا أولاً أُدخلت الرموز الاستيتيكية معها والتي تراوحت بين الهزيلة والمثيرة للشفقة، ومن أبرز هذه الرموز كانت الشرطة الفلسطينية والتي استُجلبت لضبط الأمن وما إلى ذلك، ولكن بالأساس لفرض هيبة وطنيّة وبثّ الشعور بأن ثَمّة دولة آخذة بالتشكّل عبر أجساد رجالها قمحيّي اللون، من أصحاب الشوارب والانضباط الشديد… ولكنّ شيئاً ما ضِمن كل هذا التوهيم الشكليّ لم ينجح في التأثير وفي فرض الهيبة القمعيّة التي اعتدنا عليها من خلال أجساد جنود سلطات قمعيّة وسياديّة بحقّ مثل سوريا والعراق (حينها) وحتى إسرائيل. مقابل جسد المقاوم البهلوانيّ والزئبقيّ الذي تعوّدنا عليه خلال الانتفاضة الأولى، تراوح جسد الشرطيّ القادم في الوعي الجمعيّ بين الرمز الوطني الساخر من ذاته وبين المسرحيّة الفاشلة قليلة الميزانية، حيث انتشرت وقتها عادة التقاط الصور الفوتوغرافية مع الشرطيّين الباسمين من أصحاب القلوب الطيّبة، وهي صورة محيّرة على أية حال تستدعي دوافع التقاطها المزيد من الوقفات.
هزم جسد الشرطيّ الفلسطيني رمز الكمال الوطنيّ الذي لم يتحقّق من قبل طرفين: الجسد الفتيّ الأبيض والتكنولوجيّ للإسرائيلي المتفوِّق معرفيّاً وتاريخيّاً، وجسد الرجل الفلسطينيّ الذي هو نِتاج الانتفاضة الثانية، حيث تحوّل هذا الجسد إلى سِلاح (تفجير الذات) وأداة حرب يمكنها أن تضحّي بكمالها وسذاجتها بغية تحقيق هدفها، كما تحوّل جسد الرجل الفلسطينيّ من كيان غامض تغلّفه الرموز كالكوفيّة وملابس الخاكي والكلاشنيكوف إلى جسد يتمّ العبث فيه في الحواجز ونقاط التفتيش وإلى جسد اللا-بطل – والمُشتَهى في آن، وذلك الذي نرى ماركة سِرواله الداخليّ ونحلم بتفاصيل أكثر وأسفل من ذلك. ومن ثمّ نشاهده أشلاء في عملية تفجيريّة، أو قصف على قطاع غزة.. ثم نشاهد أكواماً من الأجساد الرجوليّة العارية إلّا من سراويلها الداخليّة المختارة بعناية في عمليات اجتياح لقرى أو أحياء بأكملها، وهنا يتبدّل الحال حيث يتجلّى الجسد الذكوريّ القامع الممنوع، المتمثّل بالرجل الإسرائيليّ، الملفّح بكافّة الرموز الوطنيّة، بينما يستلقي الشاب الفلسطينيّ بسرواله المزيّف في مشهديّة تبعث على جدليّة الغواية\التعاطف، وهي جدليّة ربما تميّز التعامل مع الجسد الرجوليّ ما بعدَ الوطنيّ.
في الحالة التشكيليّة للفنّ الفلسطينيّ المعاصر نرى تأثير ما ذُكر في تشكيل جسد فنّي فتيّ قد استفاد من مرحلة الجسد الفلسطينيّ ما بعد الوطنيّ والمبعثر. فنانون من أمثال رأفت حطّاب، حنا ناصر، شريف واكد، هيثم تشارلز حدّاد وغيرهم. فعلى سبيل المثال يلعب رأفت حطّاب لعبة الصمود والبقاء كذاكرة مذكّرة وليست مؤنّثة على ساحل فلسطين، حيث تعتبر وظائف التذكير بالجنّة المفقودة ومشاعر الفقدان، نسائية بامتياز في ثقافتنا الشعبيّة الفلسطينيّة، بينما تترك للرجال مهمّة انتاج الخلاص الذي لا يأتي أبداً… وهنا تكمن أهميّة أعمال رأفت حطّاب كتجسيد لمثل هذه المرحلة الاستيتيكية، التي يضطرّ الرجل فيها للقيام بالكثير من الحركات البهلوانية التي تشكّل حدود وظائفه التقليدية المتوقعة منه، وذلك في طريقه من عمله في إسرائيل وعودته إلى بيته في الضفّة عبر الجدار، أو في طريقه للصلاة إذا ما استطاع إليه سبيلا. وهكذا تتجلّى الذاكرة النازفة لدى رأفت كخاصيّة أنثويّة، ولكن بجسد رجل بهورموناته وشعيرات جسده البارزة دون الحاجة لإلغاء النوع الجنسيّ أو طمسه، لتتجلّى الصورة النمطيّة. يجسِّد رأفت حطّاب عبر أعماله المختلفة الجسد الموجوع، ولكنّه الحاضر ماديّاً وتاريخيّاً على الشاطيء ( في المكان الفلسطيني العميق والأول- يافا) دون أن يضطرّ لاختيار دور جندريّ محدّد يبرِّر أخلاقيّاً هذا الوجود، حيث أنّ الوجود الماديّ على الأرض هو الوجود الواقعيّ الذي ليس بحاجة للإثبات، وتشتدّ حيرته وبالتالي صخبه كلما ثار على “الإجماع الوطنيّ” وكلّما ابتعد عن القوالب الثنائيّة. فكما أنّ الأجساد المجندرة والرموز الجامعة والثنائيّات البنيويّة هي من مفرزات الدولة الوطنيّة ونهضتها في أوروبا، ومن ثمّ الشرق في نهاية القرن التاسع عشر، فإنّ رأفت حطّاب ورفاقه الفنّانين هم عبارة عن انعكاس لفشل تكوين الدولة الوطنيّة في فلسطين، مرة تلو المرة تلو المرة، وبالتالي الفشل في طرح شكل أحاديّ للجسد الذكوريّ البطوليّ الذي هو من رموز وأسُس الدولة الوطنيّة بفرسانها وحماة ديارها. وهكذا نرى أنّ رأفت حطّاب يبدّل الأدوار، حيث يندب، ويلطم، وينتف شعرَه، وينزف ذاكرة، وينبش في أغراض الميتين كما تنبش الجدّة في قطن الفراش عن رائحة أولادها الذين هجروا البيت قبل مائة عام ولن يعودوا، فيتخلى رأفت عن الدور الرجوليّ المعهود المتمثّل في توزيع الوعود والأوهام، ولكنه لا يتخلّى (أي رأفت) عن جسده الذكر الذي يسمح له أن يتقمصّ دور “حارسة الذاكرة” التي تنثر التراجيديا بحكم طبيعتها ولا تعد شخصاً بأيّ خير…لأن أصحاب الجسد الما-بعد-وطني وحدهم يعرفون أنّ ثنائيّة الألم\ الرغبة في الفنّ باتت أهمّ.
ترجمة من العربية أريه جوس
Edward Said, 2000. “Invention, Memory and Place,” Critical Inquiry 26, 2, pp. 175–192
راجي بطحيش هو كاتب، مترجم وباحث ثقافي وناشط كويري، نشر عدة كتب بين الشعر والقصة والرواية ويكتب مقالات نقدية في السينما والفنون في البلاد والعالم.