في قلب مدينة أمّ الفحم تقع أهمّ وأكبر صالة لعرض الفنون في المجتمع العربيّ في إسرائيل. هذا العام يصادف مرور الذكرى العشرين على تأسيسها، ونحن نستغلّ هذه الفرصة لإجراء حديث مع مديرها ومؤسّسها سعيد أبو شقرة حول نشاط الصالة، وحول موقعها في المشهد الفنّيّ الفلسطينيّ في إسرائيل.
من أين جاءت فكرة إقامة صالة عرض للفنون في أمّ الفحم؟
إقامة الصالة في العام 1996 شكّلت نوعًا من الاحتجاج السياسيّ. أنا فنّان وابن لعائلة فنّانين. لاحظت حينذاك أنّ تطوير الفنون في مجتمعنا لا يحظى بأيّ اهتمام يُذكر. الدولة لم تقدّم شيئًا يُذكر لتطوير الثقافة الفلسطينيّة في إسرائيل، وحتّى القيادات العربيّة لم تتناول هذا الموضوع البتّة، ولم تنجح في رسم أهداف واضحة نتيجة الفوضى العارمة في المشهد الثقافيّ. عملت القيادات بكدّ ونشاط وخرج الناس في مظاهرات واعتقدوا أنّها ستحقّق لهم الكثير، لكنّنا هدرنا الكثير من الطاقات البشريّة التي ضاعت سدى، إذ نفّس الناس في هذه المظاهرات عن أنفسهم، ثمّ عادوا إلى أعمالهم وانشغالاتهم؛ أمّا الواقع فبقي على حاله. لذا اعتقدت أنّه على كلّ واحد منّا أُلقيت مَهمّة العمل في مجاله دون تذمّر ودون كيل الاتّهامات للآخرين. أقمت صالة العرض كنوع من الاحتجاج وعرّفت مَهمّتها بأنّها: “إعادة الأمجاد إلى سابق عهدها”.
ماذا تقصد بهذا؟
قبل العام 1948، أنتجنا نحن، الفلسطينيين، السجّاد والحصير، وأبدعنا في أعمال التطريز والحياكة، والفَخّار، والأشغال اليدويّة الخاصّة. كانت هناك ثقافة زاخرة ومدهشة. لم ننتج الكثير من أعمال الرسم والنحت المجرّدة، لكنّنا أنتجنا رسمًا وظائفيًّا وفنًّا وظائفيًّا سدّ احتياجاتنا اليوميّة. لم يدرَّس هذا الفنّ في المدارس، بل تناقلناه من جيل لآخر. في العام 1948، تفرّقت العائلة الفلسطينيّة النوويّة أيدي سبأ، وهُجِّرت القرى وجرى تدميرها، وصارت عينًا بعد أثر.
عندما أقيمت صالة العرض في أمّ الفحم، كانت القرى والمدن العربيّة تخلو من أيّ حيّز ملائم لعرض الفنون. في بعض الأحيان، أقيمت بعض المعارض في المراكز الجماهيريّة، ولم يكن هناك من يرعى الفنّ ويمدّ الفنّانين بجرعة معنويّة، أو يشجّعهم ويرعاهم، ولم تُنتَج الكتالوجات ولم يتلقَّ أيّ من الفنّانين دعمًا يُذكر، ولم نعرف شيئًا عن تاريخنا الشفويّ، لم يقم أيّ شخص بتجميع الصور والموجودات والحكايات من كبار السنّ. تمثّلت وظيفة صالة العرض -في ما تمثّلت- في ضرب جذور عميقة في الأرض، وفي الإعلان: “أنا هنا، من اليوم فصاعدًا سأقوم باستملاك الثقافة والرواية، والأوجاع. أستملك وأستأثر بكلّ هذه كي أعتني بها بإخلاص ومحبّة ونزاهة، ومن خلال تحمّل مسؤوليّة الحفظ والبحث والتوثيق. في البداية، شاركني أخي فريد، لكنّه ضاق ذرعًا بهذا العمل لأنّه جاء على حساب مشروعه الفنّيّ، وخيرًا فعل. لاحقًا عمل أمينًا لعدد من المعارض وأصدر الكتالوجات، وافتتح صالة عرض في الناصرة، وشرع في التعليم في معهد أورانيم.
وكيف استُقبلَت الصالة في مدينة تهيمن عليها الحركة الإسلاميّة؟
في البداية، واجهتنا مشكلة أعوص من المعارضة هي اللامبالاة. لم يدرك الناس وجود حاجة لمثل هذه الصالة. وراهنوا على قِصَر نفسها، وعلى أنّها ستغلق أبوابها إن عاجلًا أم آجلًا. لم يتولّد الالتزام -التزامنا نحن المؤسّسين، والتزام المجتمع المحلّيّ وقياداته-، ولم يضرب جذورًا عميقة إلّا بعد بناء أواصر العلاقة مع جهات رياديّة في الفنّ في إسرائيل وفي العالم. منذ ذلك الحين، قطعنا شوطًا طويلًا لاختراق الوعي العامّ. ذات مرّة كانوا يسموّنها “صالة سعيد”، وها هي اليوم تسمّى “صالة أمّ الفحم”. ثمّة ما يدعو للافتخار بالنسبة للناس هنا؛ وهذا إنجاز غير مسبوق. يريد الناس صالة الفنون هذه ويشعرون أنّها صالتهم. ثانيًا: لقد تحوّلت الصالة إلى بيت الفنّان الفلسطينيّ الذي لم يكن له بيت قبل أن نقيمها. حتّى ذلك الحين لم نُنتج [نحن -الفلسطينيّين] كتالوجًا ولم نُنجز بحثًا، وإذا أردنا أن نعرف من هو عصام أبو شقرة ومن هو عبد عابدي ومن هو أسد عزّي، كنا نتوجّه إلى المجتمع اليهوديّ. لم تُعرض أعمال هؤلاء إلّا في الصالات اليهوديّة، ولم يَكتب عنهم سوى باحثين يهود. اليوم أصبحنا -أوّلًا- مركزًا، ومحورًا، وبيتًا للمجتمع المحلّيّ الذي نعتبره جزءًا لا يتجزّأ منّا، وأصبحنا -ثانيًا- بيتًا للفنّانين الفلسطينيّين، بما في ذلك مناطق السلطة الفلسطينيّة. أعمال الجميع عُرضت هنا. الجميع مرّوا من هنا. على الجميع أن يمرّوا من هنا، نعرض أعمالهم الفنّيّة مجّانًا ونُصْدر لهم الكتالوجات. تتوافر لدينا مجموعة ضخمة من الأعمال الفنّيّة ونعمل الآن في سبيل الحصول على اعتراف بنا كمتحف.
ما هي المساهمات التي تقدّمها صالة العرض للمجتمع المحلّيّ؟
صالة الفنون تتواصل مع المجتمع المحلّيّ على جميع الصعُد. منذ سنين عديدة نحن ننفّذ مشاريع يشارك فيها مئات الأولاد الذين يتعلّمون الفنون والإبداع، ونقيم دورات فنون للكبار، وورشات سيراميك للنساء. تأتي إلى هنا نساء لم يُمسكن طَوال حياتهنّ فرشاة رسم، ولم يَخرجن مِن قَبل لممارسة أيّ نوع من النشاط الاجتماعيّ. الفنّانة “رينا بيليغ” ابنة الخامسة والسبعين عادت إلى البلاد بعد سنوات طويلة قضتها في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وتوجّهت إلينا وطلبت أن تدرّس الأولاد. واقترحت عليها أن تعمل مع النساء، ولدينا الآن ثلاث مجموعات من النساء وفي كلّ منها 23 مشارِكة يرتدن الصالة ويتعلّمن ويبدعن، وقد بدأن بإنتاج منتَجات قد يقمن في يوم من الأيام ببيعها لغرض الاكتساب والترزّق.
ثمّة مشروع مركزيّ آخر هو أرشيف الصور الذي يضمّ آلاف الصور التاريخيّة ومجموعة من 300 شهادة بالصوت والصورة لمسنّين من منطقة وادي عارة: تاريخ شفويّ. هذه هي ذاكرتنا. عندما كان العالم يُجري مقابلات مع مسنّينا ونحن منكبّون على تحصيل لقمة العيش، مَن منّا لاحظ أنّ هؤلاء قد بدأوا يغادرون هذا العالم حاملين معهم الذاكرة، وبقينا نحن صفر اليدين خالي الوفاض؟ نهضنا لتوثيق كلّ شيء، وأقمنا في صالتنا معرضًا كبيرًا اجتذب جماهير غفيرة، وجميع هذه الموادّ جرى تبويبها في الأرشيف لصالح الباحثين والمهتمّين والجمهور الواسع.
العمل الآخر الذي يربطنا بالناس هو إخراج لوحات وأعمال فنّيّة من بين جدران صالة العرض وعرضها في فضاءات البيوت الخاصّة والبنايات العامّة والحوانيت وكروم الزيتون. قمنا بذلك عدّة مرّات، ويقوم الجمهور العربيّ واليهوديّ الذي يرتاد المعرض بالتجوال في الشوارع والبحث عن هذه الأماكن، فيتواصل مع الناس، ويتحدّث معهم، عندها يشعر أهل البلد أنّهم يشكّلون جزءًا من الحدث الفنّيّ. هذا العام، وعلى شرف الاحتفالات بمرور عشرين عامًا على افتتاح صالة العرض أمّ الفحم، سنقوم بتوسيع رقعة هذا العمل.
من المعروف أنّكم تحلمون بإقامة متحف. ما هي حظوظ تحقيق مثل هذا المشروع؟
برأيي لا يمكن إقامة متحف إلّا من خلال سيرورة يشارك فيها المجتمع المحلّيّ بكل أطيافه. تُلقى على المتحف مَهمّة صياغة هُويّة شعب، ولا يمكن لشخص يأتي من الخارج أن يقيمه وأن يقرّر بشأن مضامينه. قبل أن أنهض بمشروع المتحف، حريّ بي أن أنهض بمجتمعي كي يحتضنه ويدعمه. الآن، وبعد كلّ هذا العمل السيزيفيّ (إن صحّ التعبير)، سنحصل هذا العام على اعتراف بنا كمتحف. حصلنا على قطعة أرض بمساحة 15 دونمًا، وأعلنّا عن مسابقة لإقامة بناية جديدة، وتقدّم لها 49 معماريًّا واخترنا 3 مخطَّطات رياديّة، لكن تنقصنا الأموال الضروريّة لذلك. يحتاج هذا المشروع إلى ملايين عديدة من الشواقل، وتجد الدولة -وكذلك المانحون اليهود- صعوبة في تقديم أموال لإقامة متحف فلسطينيّ. من جهة أخرى، لا نستطيع التوجّه إلى الدول العربيّة، بسبب المساءَلة الصارمة في شأن الأموال القادمة من “دول معادية”. لكنّني لم أتنازل عن الحلم ولا عن الإستراتيجيّة، وقمت فقط بتغيير تكتيكات العمل. الإستراتيجيّة تتمثّل في إقامة متحف عربيّ فلسطينيّ داخل أمّ الفحم، والبناية الجديدة هي التكتيك. في هذه الأثناء، سنحقّق الحلم في البناية القائمة المتواضعة. علينا إدخال بعض التغييرات، واستيفاء متطلّبات الأمان والسلامة، والمَناليّة لمحدودي الحركة، والإضاءة، ونحن مستعدّون لذلك. نريد أن يعرف العالَم أنّ لدى الفلسطينيّين في إسرائيل متحفًا. وعلى الرغم من الصعوبات، فهذا الحلم سيتحقّق قريبًا.
خبِّرنا عن النشاط المشترك لفنّانين فلسطينيّين ويهود.
منذ تأسيسها أعلنّا أنّ الصالة ستكون مكانًا يحتضن التعدّديّة الثقافيّة. لا يجوز لنا أن ننطوي على أنفسنا داخل فقاعتنا الذاتيّة. دوائرنا آخذة في الاتّساع –في أمّ الفحم، ووادي عارة، لدى الفلسطينيّين، وفي إسرائيل، وكلّ العالم. لا يمكن التنكّر لحقيقة أنّ غالبيّة الفنّانين هنا تخرّجوا من المعاهد والمؤسّسات الإسرائيليّة؛ فهم لا يستطيعون الدراسة في الدول العربيّة. الجميع يستخدمون الأدوات ذاتها. التقنيّات تختلف بعض الشيء لكن الأدوات متشابهة. الكثيرون يوظّفون الرموز الموروثة وتلك المستقاة من التقاليد، لكن بأدوات اكتسبوها في معهد بتسلئيل أو في جامعة حيفا، أو في مدرسة الفنون في بيت بيرل (حيث درست أنا)، أو في مؤسّسات أخرى. التنافس له وقعه أيضًا. يدرك الفنّانون أنّهم إذا أرادوا أن يعرضوا في تل أبيب فالمنافسة شديدة وعليهم أن يبذلوا قصارى جهدهم. إذا لم تكن ممتازًا، فلن تستطيع عرض أعمالك. أريد الصعود نحو الأعلى بواسطة الفنّ، كي أتعامل مع اليهوديّ بِنِدّيّة. بمساعدة الأرشيف والصالة، أمنح اليهود الذين يأتون إلى هنا فرصة إلقاء نظرة عميقة على الفلسطينيّ في مكان تواجده الطبيعيّ، والتواصل مع أوجاعه، والتعرّف على ثقافته والتعرّف علينا دونما نظرة فوقيّة. لم أسمح لنفسي قَطُّ أن أشعر أنّني ضحيّة، وعملت دائمًا من خلال السعي نحو التميّز والنوعية الفنّيّة المرموقة؛ فأنا -كما يعلم الجميع- لا أومن بالفنّ الهابط.
كيف تساعدون الفنّانين الشبّان الذين في بداية مشوارهم؟
يتمثّل دَورنا في تشخيص قدراتهم، ومن ثَمّ نقترح عليهم إقامة معرض لأعمالهم. أقدّم طلبات لصالحهم لصناديق التمويل المختلفة، وأمكّنهم من الحصول على جوائز وإنتاج كتالوج وإقامة معرض. أستأجر لهم موجِّهًا وأمين معرض يرافقانهم لمدّة عام أو عامين، ويوجّهانهم، ومن ثَمّ نعرض أعمالهم في الصالة بعد خوض مسار عمل شاقّ. نحن الوحيدون الذين نقوم بعمل من هذا النوع منذ عَقد من الزمان. هذا العام قام أخي فريد أبو شقرة للمرّة الأولى باستيعاب ثلاثة فنّانين في صالته في الناصرة. على صالة الفنون -أيّ صالة للفنون- أن تطوّر الفنّانين وأن تُصْدر الكتالوجات وأن تنغمس في البحث والدراسة، وإذا لم تقم بذلك فهي مجرّد فضاء للعرض وليست صالة عرض، ومن المؤكّد أنّها ليست متحفًا. يسرّني أنّ هناك صالات عرض محلّيّة في البلدات العربيّة، ولدينا علاقات جيّدة معها، لكنّها لا تملك الإمكانات والوسائل المتوافرة لدينا -على سبيل المثال، قمنا في الفترة الأخيرة بإصدار كتالوج تحت عنوان “هُويّة الفنّان الفلسطينيّ” بكلفة باهظة، وللأسف الشديد ما زال الآخرون لا يملكون القدرة المادّيّة على إنتاج عمل كهذا.
وما هو الحلم في ما يتعلّق بالعشرين سنة القادمة؟
أن نؤسّس نقطة لقاء جديرة تتوافر لديها كلّ الأدوات والقدرات لمواصلة عمليّات البحث وَ “الحفظ” في كلّ ما يتعلّق بالتراث الفلسطينيّ والثقافة والفنّ المعاصر، وأن تكون نقطة يؤمن بها الجميع، وتنتج فنًّا راقيًا على المستويين المحلّيّ والدوليّ، ويؤمّها الكثير من الناس. أنا أومن باللقاء. سيتعرّف الناس الذين سيرتادون أمّ الفحم على الإنسان البسيط في الشارع. أطمح أن تكون أمّ الفحم منصّة مركزيّة للفنّ الفلسطينيّ المعاصر بالنسبة لإسرائيل -كما لخارجها.
صالتنا ليست كأيّ صالة عرض في البلاد، إذ تُلقى على عاتقنا وظائف وأدوار خاصّة. هنا “نُخْرج الماء من الصخر”. في ما مضى، عندما كنت أعود إلى البلاد من زيارة المتاحف العالميّة، كنت أشعر بالإحباط الشديد. لقد بنوا هناك متاحف بعد ألف عام من العمل، ومن أكون أنا؟ لا مال لديّ ولا دعم أتلقّاه. كيف سأنجح في مَهمّتي؟ الدور الملقى على عاتقي هو دعم الفنّان الفلسطينيّ والإسرائيليّ والعالميّ، وأن أمضي بأمّ الفحم نحو الأمام. لا أستطيع الاكتفاء بالموجود. أريد تدريب فريق عمل يواصل المشوار من بَعدي. ما زال في انتظارنا عمل كثير.
عندما يتحدّث سعيد عن المستقبل، لا يمكن إيقاف تدفّقه. تراه يتحدّث والبريق في عينه. إنّه كتلة من الحماسة والقناعة الراسخة. هذا هو -على ما يبدو- سرّ نجاح هذا المكان الفريد من نوعه.
د. ساره اوساتسكي-لزار هي زميلة بحث في معهد فان لير، ورئيسة تحرير مجلة منبر-بما وتعمل في مجال دراسات المجتمع العربي في اسرائيل.
سعيد أبو شقرة هو فنان، مؤسس ومدير صالة العرص للفنون- أم الفحم، منذ سنة 1996.