أ.
القرن الحادي والعشرون يتمرد على إرث القرن العشرين القصير، الذي بدأ عقب الحرب العالمية الثانية. النشوة الليبرالية التي ولّدها سقوط جدار برلين وانتخاب أسوَد البشرة رئيساً للولايات المتحدة شرعان ما تبدّلت وساد مكانها إحباط وكدر حلّا مع انتخاب زعماء مستبدين في دول غربية. اختراق الحدود الذي بشّر به الاتحاد الأوروبي استُبدل بإحكام إغلاقها في أعقاب 9.11 وأعداد كبيرة من المهاجرين من آسيا وأفريقيا الذين تدفقوا إلى بوابات أوروبا. صحيح أن التكنولوجيا تربط بين الناس على نطاق كونيّ، إلا أنّ أسوار الهويات أصبحت أكثر استحكاماً خارج العالم الافتراضي. الأمل الواقعي، أو المتخيّل، الذي أشاعته اتفاقيات أوسلو تبدّل وحل محله اليأس، في إدارة الظهر لإمكانية تسوية الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني وفي تشديد السيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين.
باستثناء حالة واحدة، لم تتلاش الحدود خلال القرن العشرين الليبرالي. العكس هو الصحيح، إذ زاد تفكك الاتحاد السوفييتي من عدد الدول المستقلة والسيادية في العالم وأطالت الحدود السياسية. الحالة الاستثنائية هي توحيد ألمانيا. حين انهار الانفصال السياسي بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، عادت لتظهر من جديد القواسم المشتركة وفي مقدمتها اللغة، التاريخ، الدين والثقافة. تغلبت هذه العناصر التكوينية الأساسية في الهوية الألمانية على المخيال السياسي واليوتوبيا الإيديولوجية اللذين تسببا بتقسيمها. تختلف الحالة الإسرائيلية ـ الفلسطينية في أن الحديث هنا عن شعبين بدون قواسم مشتركة، لغوية أو تاريخية أو دينية، يتصارعان على السيطرة على البلاد ذاتها. الحدود تكتسب أهمية كبيرة بالنسبة لكل واحد من هذين الشعبين، كما لأي شعب آخر. هي هامّة بالطبع للفلسطينيين الذين لم يحظوا ولا حتى بيوم واحد من الاستقلال السياسي في بلدهم. فالحدود تُنتج انتماء للمكان وللشعب وتمنح الشعور بالأمن؛ وهي تمنح الأفراد والجماعة أهمية ومعنى وتتحدد بواسطة رموز وأساطير. لا يمكن تجنب إنشاء حدٍّ بين إسرائيل وفلسطين، حدّ بين هويتين وبين شعبين. سيقوم على أساس خطوط حزيران 1967 وسيتم تعويض فلسطين إقليمياً عن أي سنتيمتر مربع من مساحة المستوطنات الإسرائيلية في القدس، والتي ستعترف فلسطين بضمّها إلى إسرائيل. الضاحية اليهودية وحائط المبكى سيكونان تحت السيادة الإسرائيلية، بينما تكون كل الأجزاء الأخرى من القدس القديمة تحت السيادة الفلسطينية.
ب.
أورشليم والقدس هما مدينتان حدّيّتان. ليست هذه مدينة واحدة موحَّدة ولا مدينة متعددة الثقافات، بل مدينتان حدوديتان. في المدينة الحدودية أعضاء مجموعة واحدة ـ في أورشليم والقدس نحو أربعين بالمائة من سكان المكان ـ يصارعون من أجل التحرر من سلطة المجموعة الإثنية الأخرى ومن الإطار السياسي الذي فرضته إسرائيل عليهم. خلافاً لمناطق حدودية أخرى موجودة في الهوامش السياسية، الديمغرافية والجغرافية، أورشليم والقدس هما مركز جغرافي، رمزي وسياسي. في كل واحدة منهما يسكن نحو عشرة بالمائة من مجموع الإسرائيليين أو الفلسطينيين وكلاهما معاً تشكلان حيزاً مدينياً يضم أكثر من مليون إنسان. في هذا الحيز هنالك اعتماد متبادل من كلتا المدينتين على الأخرى، لكن هذا الاعتماد المتبادل ليس بين كيانين متساويين، للأسف. من هذه النواحي، تختلف القدس عن جميع المناطق الحدودية الأخرى الواقعة بين المساحة الإسرائيلية السيادية وبين المساحة التي احتلتها إسرائيل في العام 1967.
السؤال الأساسي بالنسبة لأورشليم والقدس هو أي الحدود سيقام بينهما: صلب ومغلق، هجين ـ أم مفتوح تماماً. الحد المغلق وفيه معابر تحت مراقبة مشددة سيؤدي إلى تدهور وانحطاط كلتا المدينتين. في كل مكان في العالم، المناطق الحدودية هي مناطق هامشية مهمَلة. في المفاوضات حول الحل الإسرائيلي ـ الفلسطيني النهائي والدائم طالبت إسرائيل بإنشاء حدّ صلب في القدس كما في المناطق الأخرى من البلاد؛ بينما أيّد الفلسطينيون تقاسم السيادة وإبقاء المدينة مفتوحة تماماً. كان الموقف الإسرائيلي يستند إلى رؤية مسؤولين أمنيين محافظين وإلى الرغبة في التميز عن الشرق العربي. لكن تم إهمال المصالح البلدية والسؤال حول كيف ستتصرف المدينة وتتطور وكيف ستبدو الحياة اليومية فيها. في الجانب الفلسطيني كان هنالك إدراك لهذه الأسئلة، لكن باستثناء مبدأ المدينة المفتوحة، لم يطرح الوفد الفلسطيني بديلاً لتصور الحد الصلب الذي عرضته إسرائيل.
يبين الفحص المدقق للاقتراح الإسرائيلي، والذي ليس هنا المكان للخوض في تفاصيله، أنه من غير الممكن أن يُقام عند حدود البلدة القديمة معبر حدودي صلب على غرار الموجود في المطارات من دون هدم نسيج الحياة المديني. وفي أماكن عديدة خارج البلدة القديمة، ثمة بيت إسرائيلي يلامس بيتاً فلسطينياً. إقامة الجدار هناك ستؤدي إلى تدمير نسيج الحياة لدى الجانبين. يكفي أن ننظر إلى ما سببه الجدار الذي أقامته إسرائيل في شرقي القدس لنسيج حياة الفلسطينيين المديني.
ت.
التوغل الاستيطاني الإسرائيلي إلى داخل القدس لا يقف حائلاً أمام تقسيم المدينة بين دولتين ذواتيّ سيادة، وإنما يمنع إقامة حدّ صلب بينهما. التقسيم إلى دولتين وإلى عاصمتين يحتّم النظر إلى القدس بصورة مغايرة عن المناطق والأجزاء الأخرى من البلاد، وذلك بسبب المميزات الخاصة التي لأورشليم والقدس. على نقطة الانطلاق أن تكون مصلحة نسيج الحياة في المدينة. وعلى مصالح الدولة أن تلائم نفسها لواقع المدينة، وليس العكس.
يمتاز نسيج الحياة في القدس بمدى حساسيته وبتعدد أبعاده. العنف ليس سمته الوحيدة، رغم بروزه. ليس ثمة مكان آخر بين البحر والنهر فيه مثل هذا الكم الكبير والمتنوع من اللقاءات والعلاقات المتبادلة بين اليهود والعرب، كما هو في القدس. هذه الروابط اليومية هي التي تخلق الحيز المديني؛ وهي مرنة وتنتقل بسرعة فائقة من التماس المباشر والمتبادل في فترات الهدوء إلى الانطواء في فترات المواجهة. التبادلية هي الروتين بينما الصدام هو الاضطراب والاستثناء. الاتفاق السياسي والحدّ “اللين”، الذي يسهل تجاوزه، من شأنهما تعزيز هذه الروابط المتبادلة. فيما يلي بعض المبادئ الأولية التي ينبغي وضعها وتطويرها انطلاقاً من نظرة حقيقية إلى الواقع الجغرافي والاجتماعي في المدينة.
نسيج الحياة الفريد في أورشليم والقدس يستلزم أن تقوم كلا سلطتيّ الحكم المركزيتين بنقل معظم الصلاحيات إلى البلديتين بغية أن توضع مهمة إدارة الحيز في أيدي أبناء المكان بصورة أساسية، وخصوصاً في مجالات التخطيط والبناء، البنى التحتية، الخدمات الشرطيّة وإدارة الحدود. ستكون ثمة حاجة إلى وضع ترتيبات ومؤسسات مشتركة بين كلتا المدينتين من أجل معالجة القضايا العابرة للحدود السياسية: النقل والمواصلات، التعليم العالي في مؤسسات إسرائيلية، العلاج الطبي في مؤسسات إسرائيلية، حماية البيئة، العمل والتشغيل، تطوير وإدارة السياحة وحفظ الأماكن المقدسة والمواقع التاريخية الخاصة بأحد الطرفين والقائمة في منطقة تخضع لسيادة الطرف الآخر ـ على سبيل المثال، المقبرة اليهودية في جبل الزيتون، الكُنُس والمدارس الدينية اليهودية (ييشيفوت) في الحي الإسلامي، المساجد والمقابر الإسلامية والمسيحية ضمن منطقة نفوذ القدس الإسرائيلية. هذه الترتيبات من شأنها أن تخلق نوعاً من الكونفدرالية البلدية في قضايا عينية محددة.
قد تكون الترتيبات الاقتصادية في القدس جزءاً من التسوية الاقتصادية العامة بين الدولتين وقد تكون خاصة بالمدينة نفسها فقط. على سبيل المثال: سيكون بإمكان الجانبين الإعلان عن منطقة تجارة حرة ومنح العملتين الوطنيتين مكانة قانونية؛ وبإمكانهما ـ عوضاً عن ذلك ـ إنشاء نظام اقتصادي مميز لتشجيع الاستثمارات الدولية والتطوير. خلال فترة الفصل إلى عاصمتين، لا حاجة إلى قطع البنى التحتية في مجالي المياه والكهرباء في شرقي القدس، والتي تكون مربوطة بالمنظومات الإسرائيلية؛ يكون الفصل في إدارة البنى التحتية وفي الجباية لقاء الاستهلاك. وعند الحاجة إلى تحديث البنى التحتية في القدس، فستصبح فلسطينية.
يتم ترسيم وتعليم الحد الفاصل بين المدينتين والدولتين وتُقام نقاط عبور عديدة ومنوعة بين المدينتين. تحديد موقعها وترتيبات العبور في كل واحدة منها تتطلب فحصاً تفصيلياً دقيقاً للمنطقة على طول الحدود وملاءمة الترتيبات لظروف المنطقة وموقعها في النسيج المديني. وبوجه عام، سيكون التوجه الأمني في الحيز المفتوح مختلفاً عمّا هو قائم الآن. الطابع المميز للترتيبات الأمنية الإسرائيلية اليوم هو إجراء فحص إسرائيلي حصريّ لأي شخص ولأية حمولة، في مكان واحد وتوقيت واحد. هذا التوجه يحتاج إلى معابر حدودية كبيرة، يولّد عنق زجاجة وازدحاماً كبيراً ويحول دون تدفق الناس والبضائع بصورة حرّة. وبالرغم من أن الحديث هو عن حدّ دوليّ، إلا أن أنه سوف تنشأ حاجة إلى تغيير أنماط الفحوصات فيه، وكذلك مراحلها، ثم استبدال السيطرة الإسرائيلية الحصرية على العملية بسيطرة ثنائية مشتركة. وتتيح التكنولوجيا الحديثة التفكير بتشغيل معابر حدودية ناعمة وبالتمييز بين قطاعات مختلفة من جمهور المارين في المعبر. هكذا، على سبيل المثال، قد توضع ترتيبات خاصة للمقدسيين تختلف عنها للزائرين والسياح. التقنيات الحديثة، مثل تحديد الهوية بالمقاييس الحيوية (Bio-metrics)، الكاميرات واستخدام تقنية “المدن الذكية”، من شأنها أن تتيح الانتقال السريع والمريح. كذلك سيتعين تغيير أنماط الأداء الشُّرَطيّ من أداء شرطي إسرائيلي إلى أداء شرطي مشترك وودّي، ولهذا الغرض ستتم إقامة هيئة قيادة شرية مشتركة لتنسيق الأنشطة العابرة للحدود. هذه كلها سيتم تكريسها في تعديلات قانونية وسط الانتباه إلى عدم المس بالخصوصية لدى استخدام وتفعيل التقنيات الحديثة.
ث
إحدى العبَر المستفادة من اتفاقيات أوسلو هي أنه ينبغي عدم تأجيل البحث حول القدس إلى نهاية المفاوضات. بالعكس، ينبغي فتح هذا النقاش حول القدس لأنه تمثل جميع القضايا الأخرى التي تحتاج إلى اتفاق: السيادة، المستوطنات، الأمن، الأماكن المقدسة، اللاجئون، الحدود، البنى التحتية والاقتصاد. من الواجب الإشارة إلى أن الفجوة بين الجانب الإسرائيلي والجانب الفلسطيني في القدس هي فجوة كبيرة جداً. لم تكن ثمة بلدية فلسطينية مستقلة في القدس في أي يوم من الأيام، ومنذ أواخر التسعينات حطمت إسرائيل قيادة المجتمع المدني في شرقي المدينة. من أجل التجسير على هذه الفجوة ومن أجل منع استغلال الطرف القوي للطرف الضعيف اقتصادياً، ينبغي تقليص الفجوة فور بدء العملية السياسية مباشرة، وقبل أن يتم التوصل إلى أية تلخيصات. فإن إبقاء القدس الشرقية ضعيفة، معتمِدة ومستغَلّة ليس أمراً لائقاً من الناحية القيمية ولا بد أن يؤدي في نهاية المطاف إلى المس بجودة حياة سكان القدس الغربية.
ج
القدس هي نسيج مدينيّ حيّ وحسّاس ولذا، سوف تحتاج أية تسوية فيها إلى فترة انتقالية. وخلافاً لاتفاقيات أوسلو، ستكون هذه فترة انتقالية قد تم الاتفاق على الهدف منها وتحديده ويقوم الطرفان بتطبيقه بصورة تدريجية. والاعتراف الدولي بكلتا العاصمتين يُمنح في بداية الفترة الانتقالية. خلال هذه الفترة، يتسلم الجانب الفلسطيني من إسرائيل إدارة البنى التحتية في القدس؛ توضع “خطة مارشال” دولية لتطوير القدس سعياً إلى دفعها نحو المساواة مع أورشليم الإسرائيلية؛ ويكون ممثلو القدس، إلى جانب الجهات المانحة، شركاء في إدارة الاستثمارات، في رسم الأهداف، تخطيطها وتحقيقها. ويتم تنفيذ هذه كلها بمعزل عن البلدية الإسرائيلية وكجزء من بناء بلدية القدس. ويتم هدم الجدار الذي يقطع بين الأحياء الفلسطينية ويفصل القدس عن الضفة الغربية. الرقابة على الوافدين إلى إسرائيل وإلى الضفة الغربية تتم من قبل فلسطينيين وإسرائيليين وتجري بصورة ودية مع الأخذ في الاعتبار الطرف الآخر واحتياجاته. خلال الفترة الانتقالية، يجب الامتناع عن توسيع المستوطنات الإسرائيلية في القدس الشرقية في منطقة ما وراء خط البناء القائم حالياً ويتوقف هدم البيوت والمباني الفلسطينية في شرقي المدينة. كما تتوقف إسرائيل عن مصادرة الأراضي والبيوت في شرقي المدينة ولا تفتح ملفات جديدة عن مخالفات بناء في هذه المنطقة.
حتى قبل بدء المفاوضات، وكذلك خلالها، تسمح إسرائيل للفلسطينيين المقدسيين بانتخاب هيئة تمثيلية عنهم على مستوى المدينة كلها أسميها أنا “المجلس”. وتسمح إسرائيل بإعادة تفعيل “بيت المشرق” (أورينت هاوس) مجدداً وتعيد إليه المكتبة، الشهادات، والأرشيف والصور التي صادرتها. كل حي من أحياء القدس الشرقية ينتخب ثلاثة حتى خمسة ممثلين في المجلس الذي يجتمع في بيت المشرق بصورة ثابتة. ويعمل المجلس كمؤسسة خارج البلدية الإسرائيلية، لكنه يكون على اتصال دائم معها لحل مشاكل السكان الذين يمثلهم. ويُسمح للمجلس بتجنيد مختصين مهنيين لمساعدته ولا تمنع إسرائيل المجلس من التشاور مع ممثلي السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية. ويفتح المجلس حساباً بنكياً في إسرائيل، وفي بنك فلسطيني إن رغب في ذلك، يوضع فيه أموال الهبات والتبرعات والاستثمارات الدولية التي يقوم بتجنيدها لتطوير القدس الشرقية ولتعزيز المجتمع المدني فيها. وبالتنسيق مع البلدية الإسرائيلية، يدير المجلس المشاريع التطويرية في القدس الشرقية.