في مقالته الأخيرة التي نشرها في العام 1970، كتب ناتان ألترمان ما يلي: “في اللحظة التي نعترف فيها بوجود وطنية فلسطينية مختلقة، من تلك اللحظة تصبح الصهيونية برمّتها مسألة نهب وطن من شعب موجود”. ثمة ادعاءات مماثلة شائعة أيضاً في كل من الخطاب الإسرائيلي والخطاب الفلسطيني. كثيراً ما نسمع في الجانب اليهودي أنه “ليس هنالك شيء اسمه فلسطينيون. هنالك عرب”، أو: “الأردن هي الدولة الفلسطينية”؛ وفي الجانب الفلسطيني: “اليهودية هي ديانة فقط، ولذا فإن مطالب اليهود القومية هي غير شرعية”. بالإمكان تقديم مبررات موضوعية مقنعة لكل واحد من هذه الادعاءات لكن يبقى فيها، رغم ذلك، عيب بارز ـ أنها تنكر حق الآخر في تعريف هويته؛ وإن لم يكن الآخر يمتلك مثل هذا الحق، فكيف يمكننا تبرير حقنا نحن، إذاً؟
في المقابل، يشكل الخطاب الواسع الانتشار حول السرديات ـ الادعاء بأن الهويات والسرديات التاريخية هي شأن خاص لكل طرف وأنه ليس من حق أحد الاعتراض على الرواية اتي يرويها رفيقه ـ عقبة معاكسة لا تقل وزناً وأهمية. وتشكل عبارة “هذه روايتهم” في أحيان كثيرة ما يشبه الجدار الواقي، وكأن تعريف أمر ما بأنه سردية (رواية) يجعله أكثر حصانةً في وجه النقد، أو كأنه من الممكن احترام سردية الآخر من دون اعتبارها حقيقية، كما ترى ليمور يهودا على سبيل المثال. هذا ادعاء إشكاليّ لعدة أسباب. أحدها أن السرديات التي تشكل قاعدة لأية هوية مبنية على أساس أحداث حصلت في المكان ذاته وفي الوقت ذاته. السؤال عمّا حدث في قرية الطنطورة في الليلة الواقعة بين 22 و23 أيار 1948 لا تسمح لأي طرف بأن يكتفي بالادعاء بأن سردية الآخر هي شرعية بالنسبة للآخر لكنها كاذبة بالنسبة لي.
تواصل النقاشات حول هذا السؤال العصف بالخطاب العام منذ عشرات السنين، في أعقاب ما حدث في تلك الليلة، لأن السرديات لا تنفصم. الهويات بشكل عام، والهويات المتصارعة بشكل خاص، ليست مجرد قصة نرويها لأنفسنا عن أنفسنا. وهي لا تنشأ في ظروف مخبرية معقّمة ولا في جلسة مريحة في غرفة استقبال. الهويات الوطنية هي، على الدوام تقريباً، جزء من تاريخ دامٍ وفي أي سفك للدماء ثمة جُناة وثمة ضحايا. من هنا، فإن توصيف ما حدث فعلياً وقت الإصابة لا يمكن أن يظهر بمفرده فقط، إطلاقاً، بل جبناً إلى جنب مع قصة الطرف الآخر وسيكون هنالك، على الدوام، ما يمكن تعلُّمه من القصة المعاكسة ـ السرديات تُبنى عبر سيرورة مشتركة. إنكار هوية الآخر ليس شرعياً، لكن ينبغي القول إن الإنكار في كثير من الأحيان ليس سوى مرحلة ضمن سيرورة يتم فيها فحص الهويتين المعنيتين، وهو استيضاح ضروري، في رأيي، كجزء من مساعي المصالحة.
الهوية متصلبة، في طبيعتها، وصراعات الهوية دائماً ما تكون مستعصية (intractable)، وهو تعبير شائع الاستخدام بين الباحثين في مجال حل الصراعات. مع ذلك، يجدر الانتباه إلى أنه برغم تصلبها، إلا أن الهويات قابلة للتغيير، وبسرعة فائقة أحياناً. مثلاً، خلال العقود الأولى من القرن العشرين، كان كثيرون في الحركة الصهيونية يدّعون بأن “لنهر الأردن ضفّتان، هذه لنا وتلك أيضاً”. لم يمض وقت طويل، ورغم أن الخطاب المتمحور حول أرض إسرائيل الكاملة ظل قائماً بالفعل، إلا أن المتحدثين به تخلوا عن الطموح بأن يسيطر اليهود على المنطقة الواقعة إلى الشرق من غور الأردن. مثال آخر: الهوية اليهودية ـ الدينية تغير في أعقاب ظهور حركة “غوش إيمونيم” وانطلاق مشروع الاستيطان ويمكن القول إنها عُرضة لتغيير إضافي، عميق، إثر انضمام الكهانية إلى الحكومة. ورغم تصلّبها وثباتها، إلا أن الهويات تتغير بالتأكيد: “حتى الصخور تتكسر”، بتعبير الشاعرة داليا رابيكوفيتش.
عندما تتصارع الهويات، لا يكفي أن يلتقي الزعماء على ساحات العشب الأخضر، في البيت الأبيض مثلاً، ويوقعوا على اتفاقيات. في صراعات الهوية، يتعين على الأطراف تغيير أجزاء جوهرية من هوياتهم لإفساح المجال أمام التعايش والحياة المشتركة، جنباً إلى جنب. اتفاقيات أوسلو وعمليات السلام المشابهة تشكل، في رأيي، نموذجاً لمحاولة التوقيع على اتفاق من دون زعزعة هويتيّ الطرفين، أو من دون وضعهما أمام تحدٍّ على الأقل. وعلى هامش محادثات السلام، طُرحت مطالب كبيرة ووازنة لم تجر معالجتها من خلال عملية سليمة ومناسبة: فقد طالب مسؤولون إسرائيليون بالاعتراف بالدولة اليهودية من دون فحص مدى قابلية تحقيق هذا المطلب ضمن شروط هوية الفلسطينيين مواطني إسرائيل وهوية الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ من جانبهم، طالب الفلسطينيون الاعتراف بالنكبة وبحق العودة من دون فحص دلالات مثل هذا الاعتراف بالنسبة للهوية الإسرائيلية. أنا لا أدّعي بأنّ هذه المَطالب متساوية القيمة، ولا أنها غير معقولة أو غير شرعية بالقَدر نفسه، غير أنّ كل مطلب كهذا يستلزم، أيضاً، استيضاحاً منفصلاً لدى كل واحد من الطرفين، إضافة إلى الاستيضاح المشترك. عمليات الاستيضاح هذه تقود، بالضرورة، إلى تغيير في هويتي كلا الطرفين. التغيير حتميّ، حقاً، لأن الفصل بين الهويتين غير ممكن ومن المشكوك فيه إن كان مرغوباً فيه أيضاً. حين يكون من غير الممكن إخفاء الآخر وسجنه خلف جدار، فنحن مُطالَبون بتغيير هويتنا كي نستطيع احتواء قُربه.
ما هو التغيير الذي ينبغي أن يطرأ على الهويات في عمليات المصالحة؟ سأقترح هنا، بإيجاز، إجابتين متناقضتين طورتُهما في مكان آخر: الأولى، المصالحة كاعتراف ـ تقبّل هوية الآخر باعتبارها معقولة، مشروعة وضرورية. في عملية المصالحة، نحن نفترض أنكم “أنتم من أنتم” ولا نطلب منكم التحول إلى شيء آخر. بكلمات أخرى، نحن معنيون بالتصالح معكم أنتم وليس مع كيان وهمي آخر يكون مريحاً لنا التصالح معه. على سبيل المثال، عندما يسعى إسرائيلي التصالح مع فلسطيني شريطة أن يتنازل الفلسطيني عن ذاكرة النكبة، فهو يسعى إلى التصالح مع شخص آخر ولا يعترف بشرعية جزء جوهري وأساسي من الهوية الفلسطينية. الثانية، المصالحة كمطلَب ـ نحن نطالبكم، أعضاء المجموعة المقابِلة، بأن تغيّروا عناصر معينة في سرديتكم لكي يكون بإمكان سرديتيّ المجموعتين التعايش معاً، جنباً إلى جنب. على سبيل المثال، يدّعي بعض الفلسطينيين بأن تصحيح غبن الاستعمار الصهيوني يتم بعودة جميع اليهود إلى أوروبا. مثل هذا الادعاء لا ينسجم مع هوية فلسطينية متصالحة ومن الشرعي المطالبة بتغييره. لا يترتب على ذلك أن على الفلسطينيين الاعتراف بأن أبناء الطرف الآخر هم سكان أصليون. في إطار عملية المصالحة، ينبغي على الفلسطينيين تطوير نهج ما بعد استعماري أكثر تعقيداً يكون مدركاً لحساسيات كلا الجانبين ويعترف بحق اليهود في العيش هنا.
هذان الاتجاهان متناقضان، بالطبع. إذا كنا على استعداد للاعتراف بالآخرين والقول “أنتم من أنتم”، فكيف يمكننا أن نطالب الآخرين بأن يتغيروا، في الوقت ذاته؟ وإذا كنا نطالب الآخرين بأن يتغيروا، أليس هذا اعترافاً بأننا لا نعترف بالفعل بهويتهم وبحاجتهم إلى البقاء على ما هم عليه وأن يظلوا هم أنفسهم؟ ليس بالضرورة. هذان الادعاءان ضروريان ليس رغم تناقضهما، وإنما بسببه ـ لأنهما يوازنان أحدهما الآخر. يتعين على طرفيّ الصراع أن يفهما أن الآخر سيظل من هو وما هو عليه حقاً، إلا أنه يجب موازنة هذا الاعتراف باستمراريته وعدم تغيُّره من خلال المطالبة بأن يتغير الآخر، رغم ذلك. أن يتغير بدرجة كافية تسمح لنا نحن أيضاً بالاستمرار في أن نكون ما نحن. طالما بقي صراع الهويات في حالة نشطة وعنيفة، فإن إمكانية تقبل هوية الآخر غالباً ما تُفسَّر بأنها شرط للتخلي عن هويتنا، عمّن نحن. على سبيل المثال، إذا طُلب من الفلسطينيين قبول الادعاء بأن الإسرائيليين هم الوحيدون الذين لهم الحق في تقرير المصير في هذه البلاد، كما يهو منصوص عليه في قانون القومية (المادة رقم 1ج)، فسوف يضطرون إلى الاعتراف، على التوالي، بأن لا حق لهم، هم أنفسهم، في تقرير المصير الجمعي في هذا المكان. المصالحة تعني الانتقال من تقرير المصير الإقصائي الذي ينكر هوية الآخر ـ “أنا لا أستطيع أن أكون مَن أنا إذا كنت أنت مَن تدّعيه أنك أنت” ـ إلى وضع تغيرت فيه هويتي بما يكفي لاحتواء هوية الآخر. بل ربما تمكّن سيرورات الاحتواء هذه في المستقبل تشكّل هوية جزئية مشتركة من النوع الذي عرضه أمير فاخوري. هذه التغييرات، جميعها، تتطلب منّا جميعاً، فلسطينيين وإسرائيليين، المزيد من البحث، الحوار والنقاش، وقدراً أقل من المفاوضات حول الترتيبات الأمنية وتقسيم الأرض. فهي تفترض الـ “معاً” وليس الفصل بين الهويتين.