في هذه المقالة القصيرة، أود التركيز على الجانب الهوياتي ـ الثقافي في نموذج “السلام القائم على الشراكة”. يمكن أن نسمي هذا الجانب أيضاً “سؤال الـ لنا”، أي سؤال مّا هو المشترك المتاح أمام أبناء البلاد، فلسطينيين ويهود ـ إسرائيليين على حد سواء. سأحاول أن أقترح جواباً أولياً لهذا السؤال، من خلال المقاربة التحليلية المفهومية لمصطلح الهوية والطرق التي يمكن بواسطتها استحداث هوية أو هيكلتها، في الحالة العينية.
في مقالة مؤسِّسة، يقترح بروبيكر وكوبر إطاراً لنقد شامل حول استخدام مصطلح الهوية.1Rogers Brubaker and Frederick Cooper, “Beyond Identity,” Theory and Society 29, 1 (2000), pp. 1–47 فهما يريان إنه يتم استخدام “الهوية” للإشارة إلى معانٍ قوية للتعريف بالهوية، ذات أبعاد عاطفية، وللإشارة أيضاً إلى معانٍ ضعيفة للتعريف بالهوية لا تحمل أبعاداً عاطفية. وهما يعتقدان بأنه يتعين فهم الهوية بمعناها الضعيف باعتبارها شعوراً بالقواسم المشتركة (commonality)، أي الإحساس بأن ثمّة لدى الشخص شيئاً مشتركاً مع شخص آخر؛ وكذلك باعتبارها شعوراً بالترابط (connectedness)، تعكس كون الشخص متجذراً في نسيج من العلاقات الشخصية التي تربطه بالآخرين. بهذا المعنى، تعبر القواسم المشتركة والترابط عن فهم ذاتيّ انتسابيّ (affiliative) لكنه لا يعادل الشعور بالانتماء إلى المجموعة. إنه شعور ضعيف من الناحية العاطفية مقارنةً بالفهم الذاتي الجماعي. القواسم المشتركة أو الترابط كل منهما على انفراد، أو كلاهما معاً، لا يولّدان شعوراً بالجماعية (groupness) التي هي عبارة عن شعور بالانتماء إلى جماعة متضامنة، متميزة ومحددة. ومع ذلك، من شأنها توفير الانتماء غير العاطفي إلى فئة هوياتية موسعة لا تتنافس مع، أولا تمس بـ، فئات الهوية المتجسدة في اللاعبين المختلفين في الميدان.
في سياق النزاعات بين المجموعات الثقافية ـ العِرقية، القومية أو الاستعمارية ـ المصالحة كإقرار بالمصير المشترك، القبول بالاعتماد المتبادَل، التصور الجغرافي المشترك والهوية كتفاعل حِواريّ ويومي ـ هذه كلها هي أفكار بالإمكان فهمها باعتبارها تمظهرات للقواسم المشتركة والترابط. على سبيل المثال، يعتقد جيمس هيوز إن تسوية النزاع في حالة إيرلندا الشمالية لم ترتكز على تحول ثقافي وإنما على ما يسميه “الضرورة الوظيفية” (functional imperative).2James Hughes, “Reconstruction without Reconciliation: Is Northern Ireland a Model?” in Bill Kissane (ed.), After Civil War: Division, Reconstruction, and Reconciliation in Contemporary Europe, Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 2014, pp. 245–272 وعلى نحو مماثل، يكتب دو تويت أن المصالحة في جنوب أفريقيا كانت ترتكز على الاعتراف الاجتماعي باعتماد المجموعات المتنازعة المتبادل.3Fanie Du Toit, When Political Transitions Work: Reconciliation as Interdependence, New York: Oxford University Press, 2018 ورغم أنهما يستخدمان لغة مختلفة لوصف عملية المصالحة في النزاعات التي بحثا فيها، إلا أن دو تويت وهيوز يصفان تسوية النزاع، أيضاً، من خلال الهيكلة المجموعاتية. وهي هيكلة تتكئ على ابستمولوجيا التصالح وعلى تعبئة معرفية لقواسم مشتركة وترابط لا يتبلوران إلى درجة الاصطفاف المجموعاتيّ.
يمكننا العثور على مثال عن التصور الجغرافي المشترك كتعبير عن هوية لينة من طراز القواسم المشتركة والترابط في ما كُتب عن أشكال التضامن القومي بين الأسكتلنديين المواطنين في إنجلترا. على سبيل المثال، يبيّن سينديك أن تضامن بعض المواطنين الأسكتلنديين بصفتهم “أبناء الجزيرة” يحلّ، من جهتهم، محل التضامن كبريطانيين ويشكل، في نظرهم، تبريراً للحفاظ على إطار مشترك وعلى الانتماء إليه.4Denis Sindic, “Psychological Citizenship and National Identity,” Journal of Community & Applied Social Psychology 21, 3 (2011), pp. 202–214 ليس في هذا ما يعني، بالتأكيد، أن هذا هو التبرير الوحيد، إذ من المنطقي الافتراض أن اعتبارات النزاهة السياسية والجدوى الاقتصادية تؤخذ في الحسبان أيضاً. ويقترح سينديك بناء مجتمع من خلال التشديد على القواسم المشتركة للتصور الجغرافي وتنميته؛ في هذ المثال ـ تنمية وتعزيز تصوّر “أبناء الجزيرة”. يختلف هذا التوجه، اختلافاً جوهرياً، عن بناء مجتمع على قاعدة التمثيل الخطابي للمجموعة كأفراد ذوي مميزات متشابهة، مثل اللغة والدين والعِرق وما إلى ذلك. من خلال نقد طريقة فهم مفهوم الهوية في إطار نظرية الهوية الاجتماعية التي وضعها تاجفيل، تقترح كوندور أيضاً بناء مجتمع سياسي على أساس الارتباط بالمكان، وليس بالآخَر.5Henri Tajfel, “Social Psychology of Intergroup Relations,” Annual Review of Psychology 33, 1 (1982), pp. 1–39; Susan Condor, “Pride and Prejudice: Identity Management in English People’s Talk About this Country,” Discourse & Society 11, 2 (2000), pp. 175–205
القواسم المشتركة والترابط كتجسيد للتفاعل الحواريّ المصغر، وليس لمواد ثقافية مشتركة تميز في العادة هوية متماسكة، تشكل أساس المواطنة المشتركة وأساس نموذج المواطنة الحضرية. ويقترح بعض الباحثين نموذج المواطنة المشتركة بديلاً عن نموذج بوتقة الصهر، وكذلك عن نموذج الهويات الموصَّلة (Hyphenated Identity) ـ المسمى أيضاً نموذج الـ “زائد” ـ بادعاء أن كليهما غير مناسبين في حالة الصراع ذي الجوانب الاستعمارية.6Marc Woons, “Decolonizing Canadian Citizenship: Shared Belonging, Not Shared Identity,” Settler Colonial Studies 4, 2 (2014), pp. 192–208 ومن المهم أن نلاحظ أنه بالرغم من أن النماذج تتعامل مع بناء القواسم المشتركة والترابط ضمن إطار مدني، إلا أنها تبقى صالحة في ما يتجاوز هذا الإطار أيضاً، كما في حالة الإطار الكونفدرالي.
بافتراض أنه يُفضّل النظر إلى الهوية اللينة باعتبارها مرحلة نحو تشكُّل هوية قوية، يتعين إذاً طرح السؤال: هل، وفي أية ظروف، من شأن الاعتراف بالقواسم المشتركة وبالترابط إنتاج الجماعية؟ يرى بروبيكر وكوبر إنه لكي يكون بإمكان القواسم المشتركة والترابط خلق شعور بالجماعية، ينبغي أن يُضاف إليهما شعور بانتماء أحدهما إلى الآخر، وهو ما يُسمى عادة بالانتماء الأفقي. الشعور بالانتماء مطلوب للخلق جماعية مرتبطة بالمستوى الموضوعي من القواسم المشتركة والترابط: كلما كانت درجة القواسم المشتركة أو الترابط ـ المؤسساتي، المادي أو المعرفي ـ أعلى، ازداد احتمال خلق شعور بالانتماء الأفقي. ويرى بروبيكر وكوبر أيضاً إنه كلما كانت القواسم المشتركة والترابط أكثر ترميزاً عميقاً في السرديات، في السرديات الكبرى، أو في أطر الخطاب والسجلّ الثقافي المتاح للأطراف، ازداد احتمال أن تولّد القواسم المشتركة والترابط شعوراً بالجماعية أيضاً. قد يذهب المبادرون، أو الوسطاء، الثقافيون إلى قراءة هذا الادعاء بمثابة دعوة إلى اقتراح أطر دلالية تشجع الاعتراف بالقواسم المشتركة وبالترابط والقبول بها، بغية تنمية مجتمع سياسي فوق قومي وفوق دولتيّ.
كلامي هذا ليست، بالطبع، سوى ملاحظات تحليلية أولية. تطوير المنظومة التحليلية والمفهومية المقترَحة من شأنه أن يوفر أدوات نظرية، تفسيرية وتحويلية تتيح التمييز بين سؤال “ما هو المتشابه بيننا؟” وسؤال “ما هو المشترك بيننا؟”؛ أو التمييز بين “أشخاص مثلنا” و”أشخاص نتقاسم معهم شيئاً مشتركاً”. هذه الأدوات تُقترَح في إطار السعي إلى اكتشاف، فهم، تفسير أو خلف تشابه عابر للتصانيف على قاعدة الارتباط بالمكان ـ مثل الاعتماد المتبادل، بمختلف أشكاله وتجلياته. ينبغي أن يتم استخدام هذه الأدوات على نحو لا يلغي التصنيف القومي ـ العاطفي الفاعل في الميدان وألّا يجاهلها. هذه تجليات الهوية اللينة، أي القواسم المشتركة والترابط، التي من شأنها تبرير تشكيلات هوياتية فوق قومية وفوق دولتية، ثم حفظها وتكريسها. هذه التشكيلات ضرورية لتصميم إطار فوق دولتيّ لفلسطين ـ إسرائيل، وفوق ذلك ـ لتحقيق استقراره مع مرور الوقت.
- 1Rogers Brubaker and Frederick Cooper, “Beyond Identity,” Theory and Society 29, 1 (2000), pp. 1–47
- 2James Hughes, “Reconstruction without Reconciliation: Is Northern Ireland a Model?” in Bill Kissane (ed.), After Civil War: Division, Reconstruction, and Reconciliation in Contemporary Europe, Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 2014, pp. 245–272
- 3Fanie Du Toit, When Political Transitions Work: Reconciliation as Interdependence, New York: Oxford University Press, 2018
- 4Denis Sindic, “Psychological Citizenship and National Identity,” Journal of Community & Applied Social Psychology 21, 3 (2011), pp. 202–214
- 5Henri Tajfel, “Social Psychology of Intergroup Relations,” Annual Review of Psychology 33, 1 (1982), pp. 1–39; Susan Condor, “Pride and Prejudice: Identity Management in English People’s Talk About this Country,” Discourse & Society 11, 2 (2000), pp. 175–205
- 6Marc Woons, “Decolonizing Canadian Citizenship: Shared Belonging, Not Shared Identity,” Settler Colonial Studies 4, 2 (2014), pp. 192–208