في صيف العام 2012 التقت مجموعة مؤلفة من حوالي عشرة إسرائيليين وحوالي عشرة فلسطينيين في فندق في بيت جالا. في صلب ذلك اللقاء كان نص كتبتُه بالتشاور مع أصدقاء يهود وفلسطينيين خلال صيف 2011، في ذروة حملة الاحتجاج الاجتماعية في إسرائيل، وكان عنوانه غير الرسمي “يوتوبيا عمليّة”. كان ذلك النص متأثراً بلقاء جرى قبل ذلك ببضع سنين بيني وبين أكاديمي فلسطيني اسمه سعيد زيداني عرض لي، خلاله، نصاً كان قد ضمّنه مقترحاً بدا لي آنذاك بسيطاً وثورياً في الوقت ذاته: تبني نموذج على غرار الاتحاد الأوروبي لحل الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. دولتان مستقلتان تتبعان إلى إطار واحد أوسع يسمح بحرية الحركة والتنقل والسكن فيما بينهما.
ظل صدى مقترح زيداني هذا يتردد في رأسي خلال جولاتي الصحفية في الضفة الغربية، في قطاع غزة وفي القدس الشرقية إبّان الانتفاضة الثانية. حتى ذلك الوقت، كنت أومن بحل الدولتين الكلاسيكي ـ إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ في العام 1967 مقابل تنازل فلسطيني عن حق العودة، الفصل بين إسرائيل وفلسطين وتقسيم القدس إلى جزئين ـ جانب إسرائيلي وجانب فلسطيني ـ هو الصيغة الصحيحة لحل الصراع. تلك الجولات، التي شكلت بالنسبة لي المرة الأولى التي أصطدم فيها بالواقع في ما وراء الخط الأخضر بصورة مباشرة، هزّت إيماني المذكور.
التقيتُ فلسطينيين لا يشكل حق العودة، إلى الأماكن والأراضي التي فقدوها في العام 1948، بالنسبة إليهم، حيلة أو خدعة ترمي إلى القضاء على دولة إسرائيل، كما كنت أعتقد قبل ذلك، وإنما هو تعبير عميق عن ارتباطهم بالأرض كلها كاملة، ما بين البحر والنهر. التقيتُ مستوطنين ذكّروني بما كنت أفضل أن أنساه: أن جزءاً كبيراً من الخطاب الصهيوني قد بُني على الارتباط التاريخي والعاطفي بـ “أرض إسرائيل”، وفي هذا الخطاب فإن الخليل، نابلس وبيت لحم ليست أقلّ “أرض إسرائيلية” من رمات شارون أو رعنانا، بل أكثر ربما.
كتبتُ الكثير عن شرقي القدس، وكأحد سكان تل أبيب فوجئت برؤية مدى تشابك الأحياء اليهودي والفلسطينية في هذه المدينة ومدى كون هذه المدينة مختلَطة، في البلدة القديمة وبصورة عامة.
علّمتني هذه التجارب أنه من أجل احتواء المشاعر العميقة التي يحملها أبناء الشعبين إزاء الحيز كله ما بين البحر والنهر، ومن أجل مواجهة الواقع المختلط الذي قد نشأ وتشكل هنا، ثمة حاجة إلى تصور جديد. ليس “نحن هنا وهُم هناك”، كما حاول البعض تسويق فكرة الدولتين للجمهور اليهودي في إسرائيل، وإنما تصور أكثر تعقيداً. بدا لي آنذاك أن الفكرة التي عرضها زيداني قبل ذلك ببضع سنوات تجسد هذا التعقيد. من هنا وُلد اللقاء في بيت جالا.
اتفقنا، منذ ذلك اللقاء، على خمسة مبادئ أساسية: دولتان مستقلتان في حدود حزيران 1967؛ حدود مفتوحة وحرية تنقّل؛ القدس مدينة مفتوحة ومشتركة؛ مؤسسات مشتركة لكلتا الدولتين؛ وإصلاح غُبن الماضي بدون إلحاق غُبن جديد. وما تزال هذه المبادئ تشكل، حتى اليوم، صُلب المبادرة التي تحولت إلى حركة أطلقت على نفسها اسم “دولتان، وطن واحد” وأصبحت تُعرف اليوم باسم “بلاد للجميع”.
منذ ذلك الحين، تمت صياغة المبادئ الخمسة التي كتبناها على اللوح في بيت جالا، توضيحها، وتوسيعها عبر آلاف اللقاءات لكنّ عملنا كله ظل مرتكزاً على التصور ذاته: ثمة شعبان اثنان يعيشان بين البحر والنهر، وكلاهما يرى في هذه المنطقة وطناً له، ولكي نتوصل إلى حل دائم وثابت، يتعين على أبناء كلا الشعبين أن ينعما بالمساواة القومية والمدنية التامة. هذا الصراع ليس نزاعاً حدودياً بين “إسرائيل” و”فلسطين”؛ إنه صراع حميمي وعلى الحل أيضاً أن يكون حميمياً. بعد عشر سنوات، تجاوز التفكير الذي كان في صلب لقاء بيت جالا الهوامش واحتل صدارة النقاش العام وأصبحت فكرة الكونفدرالية الفلسطينية ـ الإسرائيلية فكرة من الشرعي البحث فيها ومناقشتها، إلى جانب فكرة الدولتين “الكلاسيكية” وفكرة الدولة الواحدة.
بالإمكان الإشارة إلى بضعة أسباب لهذا النجاح الجزئي، لكنني كنت أفضل التشديد على اثنين منها تحديداً، الأول خارجي والثاني داخلي. الخارجي، هو عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين التي بدأت باتفاقيات أوسلو في العام 1993، والتي لا تزال في حالة جمود منذ نحو عقد من الزمن. الانقسام الفلسطيني بين “فتح” و”حماس” أضعف كثيراً قدرة الفلسطينيين على صياغة موقف سياسي؛ “الربيع العربي” أضعف كثيراً الدول العربية وقلل، أكثر فأكثر، اهتمامها بالصراع؛ وهي سيرورة بلغت ذروتها بالتوقيع على “اتفاقيات ابراهيم” بين إسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة/ البحرين، السودان والمغرب؛ كما فقد المجتمع الدولي إيمانه وثقته بقدرته على حل الصراع.
نتيجة لذلك، نشأت نوع من التوافق العام على أنه حتى لو بقي حل الدولتين هو الحل المفضل لدى الإسرائيليين والفلسطينيين ـ ولدى المجتمع الدولي -، بالتأكيد ـ إلا أنه لا تتوفر اليوم قوة سياسية كافية للدفع نحوه. وكما حلل مناحيم كلاين الأمر بصورة جيدة، فحين تخلى “الخارج” ـ أي، المجتمع الدولي، بما فيه العالم العربي ـ عن الصراع، ازدادت أهمية “الداخل”، أي اليهود والفلسطينيين المقيمين بين البحر والنهر. هاتان السيرورتان، المتناقضتان ظاهرياً ـ ازدياد قوة الأقلية الفلسطينية في داخل إسرائيل السيادية من جهة أولى، واتساع الاستيطان ومحو الخط الأخضر من جهة ثانية ـ عزّزتا، معاً، الإدراك بأن “الفصل”، بالمعنى الذي روّجت له عملية أوسلو، لم يعد ذا صلة.
الاستنتاج الذي خلُص إليه اليمين من انهيار وتلاشي إمكانية الفصل هو أنه ينبغي تعزيز الفوقية اليهودية. هذا هو معنى تشريع قانون القومية وهذا هو المنطق الذي يحرك مشاريع الضم على اختلافها. وهذا ما يفسر، أيضاً، النجاح الذي حققه الترانسفيريون من أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش في الانتخابات الأخيرة. ذلك أن السبيل الوحيد الذي يمكن أن يؤدي إلى التخلص من الوضع الثنائي القومي الذي نشأ هنا هو، في نظرهم، إخضاع الفلسطينيين أو تهجيرهم، “بالاتفاق” إن أمكن، وبالقوة إذا لزم الأمر.
في المقابل، عزز انتقال مركز الثقل إلى “الداخل” ما أسميناه، أمير فاخوري وأنا في مقالاتنا، بـ “تيار الشراكة”. حتى ما قبل خمس سنوات، كانت الشراكة اليهودية ـ العربية تقبع في هوامش السياسة الإسرائيلية. أما اليوم، فقد أصبحت مفهومة ضمناً ومفروغاً منها حتى في الوسط ـ اليسار اليهودي حتى لو لم تتم، حتى الآن، صياغة شروط هذه الشراكة ومضمونها بشكل كاف أو لم تتم صياغتها مطلقاً. توصيات “القائمة المشتركة” على مرشحين من الوسط ـ اليسار، مشاركة حزب عربي في الائتلاف الحكومي الأخير، صعود تنظيمات مثل “نقف معاً”، ازدياد عدد المدارس الثنائية اللغة ـ هذه، جميعها، بعض الأمثلة التي تعكس التغيير.
على خلفية انهيار فكرة الفضل، من جهة، وتنامي تيار الشراكة، من جهة أخرى، تصبح فكرة الكونفدرالية، المستندة إلى شراكة بين دولتين مستقلتين في كامل المنطقة، أكثر قابلية للانتشار وبسهولة أكبر. هذا لا يعني أن هذه الفكرة تحظى بتأييد الأغلبية؛ بل هي بعيدة عن ذلك كثيراً. إنه يضع علامات استفهام من الصعب الإجابة عليها الآن بصورة وافية: مستقبل المستوطنات، حق العودة، القدس، الفجوات الاقتصادية بين الدولتين، الآمن وغيرها الكثير من القضايا الأخرى. وفوق ذلك كله، هذه فكرة تتطلب الثقة بين الجانبين، الثقة المعدومة حالياً، بشكل تام تقريباً.
تطرح فكرة الشراكة في الوطن تحدياً هائلاً أمام كلا الشعبين. عندما يتحدث اليهود في إسرائيل عن “الوطن”، فهُم يفكّرون بـ “دولة يهودية” ويقصدونها؛ أي أن حدود “الوطن” مطابقة، إلى حد كبير، لحدود الفوقية اليهودية. وحين يتحدث الفلسطينيون عن “الوطن”، فهُم يجدون صعوبة في أن يشملوا فيه “الأغراب” الذين جاؤوا للاستيطان فيه، أي اليهود. ومع ذلك، فكرة الوطن المشترك تعبر عن شراكة المصير بين كلا الشعبين الذين يعيشان في المنطقة الممتدة ما بين البحر والنهر، بجانب بعضهما بعضاً وفي داخل بعضهما البعض؛ وهي تجسد أيضاً الإقرار بالارتباط، بل الاعتماد، المتبادل بينهما، وهي السمة التي شكلت، بحسب دو تويت، أساساً لعملية إسقاط الأبارتهايد في جنوب أفريقيا.1Fanie Du Toit, When Political Transitions Work: Reconciliation as Interdependence, New York: Oxford University Press, 2018 يمكن لفكرة الوطن المشترك أن تأخذ ما يبدو اليوم، ربما، أنه الشيء المشترك الوحيد لكلتا الجماعتين، اليهودية والفلسطينية ـ ارتباطهما الوثيق بقطعة الأرض ذاتها ـ وأن تحوّله من مصدر للخلاف إلى رافعة لتحقيق تسوية سياسية عادلة، بل إلى بداية لعملية مصالحة. هذا كله ممكن شريطة أن تكون التسوية والمصالحة مبنيتين على أسس المساواة، الحرية الشخصية (الفردية) والقومية وعلى الاحترام المتبادل.
- 1Fanie Du Toit, When Political Transitions Work: Reconciliation as Interdependence, New York: Oxford University Press, 2018